هل الخلاص بالنعمة بالإيمان أم بالأعمال الصالحة؟
يحث الكتاب المقدس المؤمنين على القيام بأعمال الصلاح والبِرّ لأنها تتفق مع طبيعة الله الصالحة البارّة. إذ يقول: "الرب إلهنا بارٌّ في كل أعماله" (دانيآل 14:9)، ولذلك فهو "يحب البِرّ." (مزمور 5:33)
الدافع الصحيح للأعمال الصالحة ونتائجها
وفضلًا عن ذلك، تتفق أعمالنا الصالحة مع قصد الله لحياتنا وتمجّده. قال المسيح: "فليُضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات." (متى 16:5) وتفيد أداة النصب "لكي" في هذه الآية الدافع المفترض وراء العمل لكي يكون صالحًا ومقبولًا لدى الله، ألا وهو أنه يهدف إلى تمجيده وأن ترْك البِر وأعماله والجري وراء الخطايا يحط من قيمة الإنسان ويؤثر سلبًا في الأفراد والشعوب. يقول سليمان: "البِر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية." (أمثال 34:14) وسيحتمل الإنسان نتائج توجُّهاته وسلوكه سواء أكان ذلك في طريق البِر أم الشر. "بِرّ البارِّ عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون." (حزقيال 20:18)
أعمال صالحة لها رائحة تزكم الأنوف
فالأعمال الصالحة مطلوبة، وليس هنالك شخص تقي أو عاقل يرفضها. ولو أن عددًا أكبر من الناس قام بعدد أكبر من الأعمال الصالحة، لكان العالم أقل سوءًا بكثير مما هو عليه. لكن الكتاب المقدس يعلّم بكل وضوح أنه لا قيمة للأعمال الصالحة كمؤهِّل لحصول الإنسان على الخلاص. فهو يصف أعمال البر المتوهمة بأنها خرق بالية. ويقول: "كثوب عدّةٍ (نجس كريه الرائحة) كل أعمال بِرنا." (إشعياء 6:64) وهو يتحدث هنا عن الأعمال التي يحاول أن يثبت بها الإنسان ذاته واستحقاقه وقيمته مُستغنيًا بكبريائه عن كل فضل من الله. ولهذا يطلَق على هذه النظرة نظرة البر الذاتي. حاول أن تتخيّل رد فعل ملك عظيم وأنت تقدّم له بإصرار وفخر ثوبًا نجسًا كريه الرائحة في محاولة منك لأن ترشوه لكي يطلق سراحك من السجن!
عجز الإنسان عن افتداء نفسه
ولهذا يقول الله صراحةً إنّ "بِر البار لا ينجّيه." (حزقيال 12:33) كما قال السيد المسيح: "ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟" (متى 26:16) وبمعنى آخر، فإن كل ما عند الإنسان أقل بكثير من قيمة الفدية المطلوبة. وقد أوضح المسيح هذا المبدأ حين روى قصةً عن عبد مدين لسيّده بمبلغ كبير. "وإذ لم يكن له ما يوفي به، أمر سيّده أن يباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له، ويوفي الدَّين." (متى 25:18) قد نُصدم لما فعله سيد العبد في هذه القصة، لكن الفكرة هنا هي أن الإنسان الفرد عاجز عن أن يسُد وحده ديون خطاياه. ولهذا كان لا بد من وضع زوجته وأبنائه في السجن تسديدًا لدَينه. ولا يعني هذا أن الله سيعاقب أبناءنا وزوجاتنا على خطايانا، لكن الله يلفت أنظارنا إلى حاجتنا إلى البحث عمّن يسد ديون خطايانا عنّا لعجزنا عن ذلك. ويكمن الحل في كلمة الله المتجسد نفسه، يسوع المسيح، الذي أرسله الله في رحمته لكي يدفع هذا الثمن عنّا. فالإنسان مغلول اليدين بالخطية. ولذلك لا يمكن أن يتوقع منه الله أن يفعل شيئًا صالحًا لنفسه أو لله. وكل ما يستطيع أن يفعله هو أن يطلب إلى الله أن يحرره ويخلصه من قيوده.
ركائز مبدأ الخلاص عن طريق الأعمال الصالحة
يروّج لهذا المبدأ أشخاص كثيرون وجماعات دينية كثيرة. لكن هذا المبدأ مبني على عدة تصوّرات ومفاهيم خاطئة منها:
1. يفترض هذا المبدأ أن الإنسان صالح وحُرٌّ في القيام بالأعمال الصالحة وقادر على ذلك، بينما هو في واقع الأمر مجبول بالخطية، مستعبد لها. فطبيعة الخطية تولد معه وتجعله يميل إلى الشر. وهذا ما عناه داود حين قال: "هأنذا بالإثم صُوّرتُ وبالخطية حبلت بي أمي." (مزمور 5:51) وهو لا يوجّه هنا أيّة تهمة إلى أمّه الكريمة. ليس الإنسان صالحًا حتى يستطيع أن يفعل الصلاح. يقول الرسول بولس بوحي الله: "ليس بارّ ولا واحد. ليس من يفهم ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد." (رومية 10:3-11) فالإنسان فاسد تمامًا. ولا يعني هذا أن الإنسان وصل إلى أقصى درجة ممكنة من الشر، أو أنه يرتكب خطية كلما سنحت له الفرصة لذلك، أو أنه يرتكب كل أنواع الخطايا الممكنة. (ملاحظة: لا ينتظر قاضٍ أن يقوم مجرم بقتل نصف سكان مدينة حتى يحكم عليه بالإعدام. إذ تكفي جريمة قتل واحدة عادةً لإصدار مثل هذا الحكم.) لكنه يعني أن الإنسان في حالته الطبيعية غير قادر على إرضاء الله أو تلبية مقاييس القبول لديه. "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله." (رومية 23:3) ربما ننظر إلى شخص على أنه "محترم" أو "صالح"، لكنه ليس محترمًا أو صالحًا بما يكفي لأنْ يقْبله الله. فقد فشل كل البشر، على سبيل المثال، فشلًا ذريعًا في حفظ أهم وصية من وصايا الله: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك." (متى 37:22) ولم يعرف التاريخ شخصًا استطاع أن يفعل هذا كل دقيقة من حياته. ويمكن أن نشبّه الموقف بأشخاص لا بد لهم من أن يقفزوا من قمة جبل إلى قمة جبل آخر مقابله تفصل بينهما مسافة ثلاثين مترًا. ربما يستطيع بعضهم أن يقفز مسافة مترين، وآخرون خمسة، وآخرون عشرة اعتمادًا على قدراتهم ومواهبهم. لكن أحدًا منهم لن يستطيع أن يقفز مسافة ثلاثين مترًا، ولن يفيده أنه كان أفضل أداءً من الآخرين. إذ سيسقط مثلهم في الوادي في نهاية الأمر. وهذا هو مصير كل البشر، ولا حلَّ إلاّ ببناء جسر بين الجبلين. وهذا هو ما فعله السيد المسيح الذي جعل من صليبه مثل هذا الجسر. لذلك يقول: "أنا هو الطريق والحقّ والحياة. ليس أحد يأتي إلى (الله) الآب إلاّ بي." (يوحنا 6:14)
والأنبياء أيضًا؟
وقد يسأل أحدهم: هل هذا ينطبق على الأنبياء أيضًا؟ ألم يكونوا صالحين؟ فكيف يقول الوحي: "الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد"؟ والجواب هو أن الأنبياء بشر مخلوقون من طينتنا نفسها. صحيح أن الله وصف بعضهم بأنه "صالح"، لكن هذا الحكم عليهم يأتي نسبيًا بالمقارنة مع غيرهم من البشر. وهو يأتي أيضًا في سياق استعدادهم في السير في طريق البر التي رسمها لهم. قد ينظر شخص من الطابق العاشر إلى الناس في الشارع فيراهم صغارًا، غير أن الطيّار الذي يحلّق على ارتفاع شاهق يراهم ويرى البناية التي كان ينظر منها الشخص مثل النُّقط الصغيرة جدًا على صفحة دفتر. ربما ننظر إلى الأنبياء نظرة إعجاب وتقدير مستحَقة. فهم كبار بالنسبة لنا، لكنهم صغار جدًا في مقياس الله الكامل القداسة والطهارة.
انتبه! الخطية داخلك!
ما دام الإنسان مسكونًا بالخطية، فإنها تُوَجِّهه وتسوده، وهو يعبّر عن عبوديته لها بطاعته وخضوعه. وهذا هو ما قصد إليه السيد المسيح بقوله: "إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية." (يوحنا 34:8) فالإنسان ذو طبيعة خاطئة، سواء أعبَّر عنها بسلوك معين أم لم يعبّر عنها حتى نقطة معينة، لأن الخطية الساكنة موجودة ولا بد أن تعلن عن نفسها بطريقة ما، منظورة أو غير منظورة، مهما طال الزمن. والإناء لا ينضح إلاّ بما فيه. وقلب المرء هو مصنع الخطايا. ويشرح السيد المسيح هذه الحقيقة بقوله: "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة، قتْل، زنىً، فسقٌ، سرقةٌ، شهادة زور، تجديف. هذه هي التي تنجّس الإنسان." (متى 19:15-20) ويفاجأ كثيرون في مواقف وأوضاع معينة بمقدار الشرّ الذي هم قادرون على فِعله.
2. يفترض هذا المبدأ وجود قيمة عالية للعمل الصالح بحيث يستطيع أن يحقق هدفًا مزدوجًا: دفْع ثمن الخطايا التي نرتكبها في حق الله لتعويضه عنها، ودفْع ثمن الحياة الأبدية.
من أين جاءت فكرة ميزان الأعمال؟ لا يمكن مساواة الخطايا بالأعمال الصالحة. ولا يعلّم الكتاب المقدس أن لدى الله ميزانًا يضع في إحدى كفتيه الأعمال الصالحة وفي الأخرى الخطايا. ويمكن إرجاع فكرة وجود ميزان تقاس به أعمال الإنسان لتقرير مصيره الأبدي إلى المانوية والأساطير المصرية. فقد كان أوزيريس، إله الموت، يزن قلوب البشر بعد موتهم ليرى إن كانوا "سليمي القلوب" وأين سيكون مصيرهم بعد ذلك. لكن الله يعرف كل شيء وليس محتاجًا إلى ميزان لكي يعطيه معرفة جديدة عنه.
تقاس الإساءة بقدْر الشخص المُساء إليه
ولعل مرجع فكرة المساواة بين الأعمال الصالحة والخطايا في قيمتها هو إلى عدم إدراك القائلين بها لماهيّة الخطية وعِظمها. فخطايانا عظيمة لأنها موجهة ضد الله العظيم. وهي إهانة لله الذي لا يمكن استقصاء قدْره، ولهذا فإن عقابها يكون عظيمًا بلا حد. فقيمة الإساءة تقاس بقيمة الشخص المُساء إليه، ونحن نسيء إلى الله العظيم بخطايانا. فكيف يمكن لأعمالنا الصالحة ذات القيمة المحدودة أن تمحو الإساءات التي لا حصر لها التي وجّهناها إلى الله بخطايانا؟ يمكننا أن نمثّل لهذه الفكرة برجل يعمل لدى ملك عظيم مدة طويلة من الزمن وهو يخدمه بأمانة. لكنه ذات مرّة، مرّة واحدة فقط، أساء إلى شرف الملك أو كرامته (وهذا هو تمامًا ما نفعله حين نخطئ ونكسر وصايا الله)، فماذا سيكون موقف الملك؟ هل سيعفو عنه آخذًا في اعتباره خدمات هذا الرجل كلها له و"أعماله الصالحة"؟ قطعًا لا! فهو سيعتبر أن كل هذه الخدمات كانت أمرًا مفروغًا منه، وأنها كلها مجتمعةً لا تعادل الإساءة الواحدة التي ارتكبها الرجل. وأي تعويض يمكن أن يقبله هذا الملك العظيم مقابل شرفه وكرامته المُستباحَين؟ وأنا لا أحب أن أتصوّر نفسي مكان هذا الرجل وهو يلقى عقابه العادل على يد الملك!
ثمن الخطية
يقول الكتاب المقدس: "لأن أجرة الخطية هي موت." (رومية 23:6) والموت يعني هنا الانفصال الأبدي من الله ورحمته واختبار عذاب بلا نهاية له في جهنم. وإذ كان عقاب الخطية الواحدة - إذا صح لنا أن ننظر إلى الخطايا كفعل مفرد - هو العذاب الأبدي في جهنم، فأي أمل أو رجاء يوجد لمن ارتكب آلاف الخطايا؟ ومن الجدير بالذكر هنا أن آدم لم يُطرد من الفردوس لقلة الأعمال الصالحة التي عملها حتى نتمكن من تصوّر إمكانية رجوعه ورجوعنا معه إليها عن طريق عمل المزيد منها. لقد ارتكب آدم خطية "واحدة" من حيث العدد عندما عصى الله، ولكنها كانت كافية لطرده من حضرة الله. ولو كان الأمر متعلقًا بالأعمال الصالحة، لأبقاه الله في الفردوس وطلب منه أن يعوّض عن خطيته بعدد ما من الأعمال الصالحة. ولا بد أن آدم عاش سنوات طويلة وهو يعمل أعمالًا صالحةً في الفردوس قبل أن يخطئ. أفلم تشفع له؟ فلو كان الله يعمل بنظام الأعمال الصالحة المزعوم، لكان ظُلمًا منه أن يطرد آدم من الفردوس! لكنه طرده بالفعل.
يتبع في العدد القادم