هل تعلمت هذا الدرس يومًا، قارئي العزيز؟ وأرجو أن تسامحني إن كان ذلك يؤذي شعورك أو يسيء إلى كرامتك، فالمسيح رب المجد وملك الملوك قام بهذا العمل فعلاً في يوم من الأيام إذ غسل أرجل تلاميذه كلهم وجفّفها بمنشفة كان يضعها حول خصره. وبنهاية المطاف، فقد علّمهم درسًا لا يُنسى.
كان إكرام الضيف وحسن وفادته في القديم يبدأ بعملية غسل رجليه، فبعد رحلة شاقة على الطرق الترابية المختلطة أتربتها بأرواث الحيوانات وأبوالها إذ كانت هي السبيل الوحيد للركوب، وكانت حوافرها تساهم في تحفير هذه الطرق وجعلها أكثر إثارة للغبار... ولا بد للمسافر من أن يسير على هذه الطرق مترجّلاً لبعض الوقت، فلا يصل مقصده إلا وقد أصبحت رجلاه متسختين جدًا ومكسوّتين بغبار الطريق. وكان لا بد له من غسل رجليه حال وصوله.
وفي اعتقادي أن تلك العادة كانت قد تأصلت لسببين رئيسيين:
1. تأكيد المضيف لضيفه بأنه مرحب به، وأنه يلقى الاهتمام المطلوب منذ وصوله لذلك البيت، إذ أن أكثر ما كان يؤلمه ويشعره بعناء السفر هو حالة رجليه اللتين علاهما الغبار والأقذار والعرق.
2. كان الضيف يجلس في بيت مضيفه على الفُرش الممدودة على محيط الغرفة "المضافة" ولا بد لهذه الفرش من أن تبقى نظيفة فلا تُداس بأرجل قذرة، لصعوبة غسلها ولندرة الماء.
أما كيف كان يتم ذلك؟
في الغالب كان يُعطى للضيف حال وصوله ماء في وعاء ومنشفة من أجل غسل رجليه بنفسه. أما إذا كان الضيف من الخاصة فكان المضيف يطلب من عبده أن يقوم بتلك المهمة، فيشمّر العبد ثوبه ويربط منشفة حول خصره، ويغسل رجلَي ذلك السيد ثم ينشفها. وكانت تلك هي وظيفة العبد الدائمة تجاه سيده كلما عاد من سفر قريب أو بعيد.
ويخبرنا الكتاب المقدس عن أمثلة كثيرة حيث كانت تمارَس فيها هذه العادة منذ عهد الآباء الأولين وقد استمرّت حتى زمن قريب.
فعندما استضاف أبونا إبراهيم الرب والملاكين قبيل خراب سدوم وعمورة كما هو مكتوب: "وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ." (تكوين 3:18-4) والملاحظ هنا أنه بالرغم من كونهم ثلاثة أشخاص إلا أن خطاب إبراهيم كان بصيغة المفرد موجهًا كلامه إلى الرب الذي كان مميّزًا بينهم بالهيبة والجلال.
وفي مكان آخر من العالم الذي كان معروفًا آنذاك، حيث ذهب وكيل إبراهيم وكبير عبيده لكي يحضر زوجة لابنه إسحاق من أور الكلدانيين مدينة آبائه في "آرام النهرين"؛ العراق حاليًا. نقرأ التالي: "فدخل الرجل إلى البيت وحلّ عن الجمال، فأعطى تبنًا وعلفًا لجماله وماء لغسل رجليه وأرجل الرجال الذين معه." (تكوين 32:24)
وفي أيام تجسد الرب يسوع، مكتوب: "وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الْفَرِّيسِيِّ وَاتَّكَأَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ الْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ." (لوقا 36:7-38) في الأعداد التالية يبين البشير كيف تساءل الفريسي في نفسه عن مصداقية "نبوّة يسوع" وكيف أنه لم يعلم ما، ومن هي هذه المرأة الخاطئة التي تلمسه. فعلم يسوع أفكاره، وساق له مثل المداين والمديونَين اللذَين تباينت قيمة دين أحدهما عن دين الآخر وكيف سامحهما جميعًا. وسأله: فمن منهما سيحبّه أكثر. فأجاب: الذي سامحه بالأكثر. وعند ذلك بيّن له المفارقة بين حالته وحالة تلك المرأة، قائلاً له: "«أَتَنْظُرُ هذِهِ الْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِالطِّيبِ رِجْلَيَّ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَالَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً»." (لوقا 44:7-47) ففي هذه القصة يتبيّن لنا:
1. إن تقديم الماء للضيف من أجل غسل رجليه كان أول مظاهر الاحترام والإكرام.
2. كيف كشف يسوع حالة قلب الفريسي الذي دعاه لكي يراقبه وينتقده.
3. بيّن له يسوع أن الجميع خطاة أمام الله وبحاجة إلى الغفران الإلهي.
4. وأثبت أنه هو الله الظاهر في الجسد والقادر على غفران الخطايا.
أما الدرس العظيم الذي علّمه الرب لتلاميذه والذي قصد أن يتعلّمه جميع المؤمنين حتى مجيئه ثانية، فقد دوّنه البشير يوحنا في الأصحاح الثالث عشر من إنجيله بقوله: "أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى... قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا... فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ." (يوحنا 1:13-14)
1. غسل أرجل الآخرين يعني محبتهم بدون حدود، فقد غسل الرب يسوع رجلَي يهوذا الإسخريوطي الذي كان قد عرف أنه سيسلّمه قريبًا. والأم تغسل وتزيل أقذار وفضلات طفلها دون تأفف لأنها تحبه محبة صادقة نابعة من أعماقها ودون انتظار مكافأة.
2. إن غسل أرجل الآخرين يعني مسامحتهم وعدم النظر إلى إساءاتهم وقصوراتهم، فالرب كان يعلم أن التلاميذ سيتركونه وحده وهو يحاكَم ويُصلَب بعد بضعة ساعات فقطـ، وأن بطرس سينكره ثلاث مرات، وأن يهوذا سيخونه، ومع ذلك فقد غسل أرجلهم جميعًا؛ وأنت وأنا نغسل أرجل الذين يسيئون إلينا ونحن نسامحهم. والذين نترك لهم الدين الذي عليهم لأننا نرى أن حالتهم صعبة. والذين ينتقدوننا دون أن نحقد عليهم، ولا نرد الكيل بالكيل ولا الإساءة بالإساءة.
3. إن غسل الأرجل يعني التواضع الذي يحثّ عليه الرب في كثير من فقرات الكتاب المقدس. ويسوع، وهو الابن الإلهي النازل من السماء، تواضع حتى أخذ وظيفة العبد فغسل أرجل تلاميذه، رغم أنه كان يواجه في نفسه كل الضغوط الفظيعة وأهوال العذاب والصلب الذي هو قادم عليه ليكون كفارة عن خطايا البشرية، محتملاً كل آلام الجسد بصبر وتصميم وحكمة لأنه كان ينفّذ مشيئة الآب السماوي.
لقد كان ذلك أحد الدروس العملية الصعبة التي علّمها المسيح، له كل المجد. وليس جميع الذين يدّعون بأنهم مسيحيون استطاعوا أن يتعلّموا هذا الدرس كما أسسه المعلّم العظيم ربنا يسوع المسيح، بموجب مقاصده الصالحة لأجلنا.
- ورغم أن بعض قادة الكنائس يمارسون ذلك كتقليد سنوي اقتداء بما فعله الرب، ولكن ما أبعد المقتدين عن القدوة، وما أبعد هذه الممارسة الظاهرية عن الفعل الحقيقي النابع من أعماق القلوب. فالرب يريد منا غسل أرجل الآخرين ليس بشكله بل بمضمونه الذي قصده بكمال حكمته وروعة تعليمه.
فأن نحب الله والناس من كل القلب، وأن نسامح الآخرين بدون ندم، وأن نتواضع فعليًا لا ظاهريًا، هذه هي المسيحية في جوهرها وسموّ تعاليمها الصادرة من منبع إلهي حقيقي نقي، وليقدّرنا الرب على حفظ هذا الدرس الثمين، وله المجد إلى الأبد، آمين.