بعد فشل كامل طوال ليلة، جهد فيها بطرس الصياد ورفاقه من غير أن يحصلوا على نتيجة ما، استعدوا للعودة إلى بيوتهم فارغين. ولكن الرب يسوع جاء ليعالج فشلهم ويعوّضهم بالصيد الوفير. وبعد كرازة قوية ناجحة أمر بطرس قائًلا: "أبعدْ إلى العمق وألقوا شباككم للصيد. فأجاب سمعان وقال له:
يا معلم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا، ولكن على كلمتك ألقي الشبكة. ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا، فصارت شبكتهم تتخرّق... فلما رأى سمعان بطرس ذلك خرّ عند ركبتي يسوع قائلاً:
‘اخرجْ من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ.’ إذ اعترته وجميع الذين معه دهشة على صيد السمك الذي أخذوه." (لوقا 4:5-9) هذا الاعتراف يذكرني بكلمات إشعياء بعد رؤية السيد والتي قال فيها: "ويل لي! إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود." (إشعياء 5:6)
كلمات سمعان بطرس هذه، تناولها المفسرون والشراح والدارسون للكتاب المقدس بالتعليقات، واختلفوا في أقوالهم، فبعضهم استحسن والبعض الآخر استهجن، وهذا ما سأتناوله في حديثي:
أولاً، أوجه الاستحسان: امتدح البعض كلمات بطرس وذلك لثلاثة أمور:
1. محتوياتها - كلمات الرسول بطرس: "اخرج من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ."
أ- تحتوي اعترافًا بالألوهية: "اخرج من سفينتي يا رب." بعد أن اصطادوا سمكًا كثيرًا جدًا رأى بطرس نفسه ليس أمام شخص عاديٍّ ولكن أمام إله. وقد أكد المسيح فعلاً أنه هو الله إذ قال ذلك عن نفسه عندما أرسل تلميذين ليأتيا له بجحش لم يركب عليه أحد، وأضاف: "إن سألكما أحد: لماذا تحلانه؟ فقولا له هكذا: إن الرب محتاج إليه." وبطرس قال ليسوع: "اخرُجْ من سفينتي يا رب." واللص الذي آمن قال: "اذكرني يا رب." ويقول يوحنا: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله." وإشعياء بروح النبوّة يقول: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام." والرسول بولس يقول: "عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد."
ب- تحتوي اعترافًا بالحالة الروحية: "لأني رجل خاطئ." في ضوء قداسة الله، رأى بطرس نجاسته وحالته الفاسدة. وفي ضوء قوة الله رأى ضعفه، وأمام نور مجده رأى ظلمته الدامسة واكتشف النفس على حقيقتها. هذه هي نقطة هامة في طريق الخلاص - فإشعياء عندما اعترف بنجاسة شفتيه طار واحد من السرافيم، وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومسّ بها شفتيه وقال: "إن هذه قد مسّت شفتيك، فانتُزع إثمك، وكُفّر عن خطيتك."
2. دوافعها: أحسّ بطرس بالخطأ الكبير الذي وقع فيه عندما نطق بجملة اعتراضية حين قال له الرب يسوع: "ابعُدْ إلى العمق وألقُوا شباككم للصيد،" فأجابه بطرس: "يا معلم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا." ولكن معجزة الصيد الوفير دفعت بطرس ليقول: "اخرُجْ من سفينتي يا رب،" إذ أحس أنه لا يستحق أن يكون يسوع في سفينته! من منا يستحق أن يوجد الرب يسوع في سفينة حياته، وفي قلبه، وبيته؟ يعجبني قائد المئة الذي قال للرب يسوع: "يا سيد، لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي."
3. أسلوبها: قُدِّمت هذه الطلبة بأسلوب رائع! يقول البشير لوقا أن بطرس "خرّ عند ركبتَيْ يسوع قائلاً." قال البعض: إن هذا السجود هو سجود الإكرام، ولكني أقول: ليس سجود التكريم فقط بل سجود العبادة. ومن غير الرب يسوع المسيح يستحق السجود والعبادة؟
ثانيا: أوجه الاستهجان
الذين انتقدوا بطرس على قوله للرب يسوع "اخرج من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ"، رأوا شيئين هامين:
1- التسرّع وعدم الرؤية: مع كل أسف، كان بطرس دائمًا متسرّعًا في الكلام، لذلك كثيرًا ما كان يقع في أخطاء. لم يتروَّ، لم يحاول تذوّق الكلام قبل أن يخرج من فمه. يقول سليمان الحكيم: "لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك بنطق كلام قدام الله." (جامعة 2:5) التسرّع يوقع الإنسان في أخطاء، لذلك يقول الرسول يعقوب: "إذًا يا إخوتي الأحباء، ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلّم، مبطئًا في الغضب." الكلمة التي تخرج من أفواهنا لا تردّ. أراد أحد المعلمين أن يعلِّم تلميذه عدم التسرّع بالكلام فقال: بعد أن تستخدم معجون الأسنان أخرج منه جزءًا. ثم قال للتلميذ: أدخل هذا الجزء وأعده إلى الأنبوبة كما خرج وبنفس الألوان. فقال التلميذ: هذا مستحيل! فقال المعلم: الكلمة التي تخرج من فمك لا يمكن إرجاعها.
2- طلبة ليست حسب المشيئة الإلهية: مشيئة الله هي أن البشر يخلصون. كان من المفروض أن يقول بطرس: يا رب، أنا رجل خاطئ، وأنا أعلم علم اليقين أنك أنت المخلص الوحيد. اِبقَ في سفينتي حتى تخلصني. هل يقول المريض للطبيب المعالج: اخرُجْ من حجرتي؟ هل يقول أحدٌ، وبيته يحترق، لرجال المطافئ: اخرجوا من بيتي؟ هل يقول غريق لمن جاء لنجدته: اخرُجْ من البحر ولا تقترب مني؟ فإن كانت هذه كلها غير مقبولة في الأمور الزمنية، فكم وكم الحاجة أشدّ إلى المخلص الذي يخلص الإنسان إلى التمام؟
أهم شيء هو أن الرب لم يستجب لطلبة بطرس. بل وجب على بطرس أن يشكر الرب لأنه لم يستجبها. أما ردّ المسيح عليه فكان شيئًا مختلفًا تمامًا. قال: "لا تخف! من الآن تكون تصطاد الناس." (لوقا 10:5)