منذ نشأة الكنيسة الأولى والاضطهادات الروحية والجسدية تتعاقب عليها بشتى الأشكال والصور، وتتجنّد جميع قوى الشرّ للقضاء عليها. والواقع أن الصراع بين الخير والشر، بين ملكوت الله وأبناء الجحيم، بين الحياة الأبدية والعذاب الأبدي، قد ابتدأ منذ سقوط الإنسان الأول في خطيئة العصيان. ولكن الله برحمته، ومن فرط محبته، لم يتخلّ عن مخلوقه الذي صوّره على مثاله، بل عمل على إنقاذه من الحالة المتردّية التي أصبح عليها.
غير أن عملية الإنقاذ التاريخية هذه كلّفت الآب السماوي التضحية بأعزّ ما لديه وهو صلب ابنه يسوع المسيح لفداء هذا الإنسان المتمرّد المتعجرف الذي ظنّ في نفسه أنه بعصيانه أوامر الله سيحظى بالألوهة، بل يصبح مثل الله عارفًا بالخير والشر. وهذه الخطيئة هي ذات الخطيئة التي ارتكبها إبليس ضدّ الله، وقد أثارت هزيمته الحقد، والكراهية على الله والإنسان لا سيما بعد أن أدرك أن مصيره الأبدي هو بحيرة النار المتقدة إلى أبد الآبدين.
وفي رأيي أن عملية الإنقاذ التاريخية التي خطّها الله لخلاص الجنس البشري قد فاقمت من حقد الشيطان، فعمد على إثارة الفتن والاضطهاد على كنيسة المسيح المفدية إذ وجد نفسه في موقف يائس لا يرجو منه ربح ولا نجاة.
لقد تبيّن للشيطان أن موت المسيح على الصليب وقيامته قد أفقده كل أمل في الغلبة والانتصار لأن دين الخطيئة قد تمّ دفعه بفضل المحبة الإلهية. وأكثر من ذلك، فإن ملكوت الله قد وجد سبيله إلى قلوب كل الذين يؤمنون بالمسيح فاديًا ومخلصًا، وأن الإنسان الساقط قد أصبح ابنًا لله ووارثاً للملكوت الذي طرد منه الشيطان.
ومن هنا، فإننا نجد أن إله هذا الدهر إبليس الرجيم، قد سعى منذ اللحظة التي تحطّم سلطانه في السماء، قد بذل كل جهد لإخضاع الإنسان إلى عبوديته والاستئثار بولائه الكامل لكي يتجاهل المخلوق البشري سيادة ربه وإلهه. وعمد إلى خطتين رهيبتين للسيطرة على بني آدم:
أولاً، إثارة نزعة الإغراء ومداعبة الرغبات البشرية والغرائز البدائية والاستيلاء على عواطفه الدنيّة؛ وما أن يخضع لها الإنسان ويستسلم المرء لشهواته، وينساق وراء مطامعه من كبرياء وقوة، وسلطان، وغنى، وتعظّم المعيشة، وكل ما هو من ثمار الجسد، يضحي هذا الإنسان أسيرًا لسيده الجديد، خاضعًا لإرادته، فيعمل آنئذ على إرضائه ويلبي جميع مطالبه وأوامره.
ثانيًا، إن أخفق الشيطان في اجتذاب الإنسان إليه لأنه آمن بالمسيح، وأصبح منضويًا تحت لواء فاديه، فإنه يحاول أن يستخدم أسلوب العنف، والقسوة، والوحشية لكي يضعف المؤمن ويثير في قلبه الرعب لعلّه ينحاز إليه ويرتدّ عن المسيح. أو بمعنى آخر يثير عليه الاضطهاد، لا فرق في ذلك بين مؤمن ومؤمنة.
بيد أنه، كما يبدو لي، أن هذا الشيطان المتحرّق للانتقام، وللقضاء على أولاد الله، قد نسي أن المسيح قد حذّر الكنيسة مما قد تتعرّض له من اضطهادات، وآلام، وضيقات، وأن الحياة المسيحية ليست حياة تراخٍ ورفاهية، ونعومة بل هي مسيرة جهاد مستمرّ، كفاح دائب، وترقّب حريص، ويقظة واعية ضدّ مكائد إبليس وألويته التي يسخّرها في هجماته على الكنيسة، لعلّه يتمكّن من تعطيل فاعليتها، وكفّها عن حمل مشعل البشارة لتقويض حصون مملكة الظلام وقلاعها، بقوة الفداء وعمل الروح القدس في حياة الناس.
ومن الخطأ المبين أن نتقوقع حول أنفسنا أو تنطوي الكنيسة على ذاتها في إبان الاضطهادات، والضيقات لأنها بذلك تعترف ضمنًا أنها أصبحت مشلولة عن مجابهة قوات العدو التي شرعت في اجتياح خطوط الدفاع والهجوم التي أقامتها الكنيسة. ومتى تمّ النصر لإبليس وأعوانه تصبح الكنيسة مجرّد نادي اجتماعي فقد تأثيره الروحي في عملية الخلاص وأضحت دعوة الإرسالية العظمى حبرًا على ورق.
غير أن هذا الوضع المزري ليس من شأن الكنيسة الحيّة التي تجنّدت في خدمة مخلصها ورئيسها، لأنها تدرك أنها في صراع دائب مع قوى الشرّ بغضّ النظر عن تألّب أجناد الشيطان الروحية التي برعت في استخدام أساليبها روحية كانت أم مادية. فالضيقات، والاضطهادات، والآلام، والجور، والاستشهاد هي جزء لا يتجزّأ من نموّ الكنيسة وغلبتها. ومن الخطأ أن تنظر الكنيسة إلى الأحداث الجارية الآنيّة بل عليها أن تلمّ بالصورة بشكل متكامل وتتوقّع من ثمّ نتائج باهرة بل نهضة لأن الله عالم بكل ما تتعرّض له الكنيسة من ضيقات، ويعلم أيضًا أن كل هذه الأحداث، هي في نهاية المطاف، لصالح الكنيسة وانتشارها.
ولكن على الكنيسة أن تكون دائمًا متأهبة لخوض هذه الحروب الروحية متدرّعة بكل الأسلحة الروحية التي وفّرها لنا الله لنخوض مثل هذا المعترك الروحي، وهي أسلحة لا تبلى ولا يعتريها الكلل أو التثلّم. وهي صالحة للدفاع والهجوم في آنٍ واحد.
وهنا لا بدّ لي أن أعرض بإيجاز إلى نتائج الاضطهاد على حياة الكنيسة وأعضائها.
أولاً، لقد وعد الرب يسوع المسيح أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها مهما تضافرت عليها قوى الشرّ، فالنصر أكيد، والظفر محتّم لأن قائدها هو الذي غلب على الصليب الموت، والخطيئة، والشيطان. وأن مصير أعدائها هو بحيرة النار المتقدة. وما علينا سوى أن نطالع ما ورد في الأصحاحين الأخيرين من سفر الرؤيا عن الكارثة الأبدية التي ستحلّ بقوات الشر لندرك هذه الحقائق الراسخة.
ثانيًا، إن الاضطهادات توحّد الكنيسة، وتقوّيها بل تحصّنها أمام جحافل إبليس. فالكنيسة، منذ بدايتها قد قامت على دماء الشهداء التي روّتها بالبركات، والتي ثبّتت أساساتها، ففي الثبات في المسيح استطاعت الكنيسة أن تهدم إمبراطوريات وثنية، وتغيّر وجه العالم القديم، ويرتفع رمز الصليب عاليًا في كل رجءٍ من أرجاء المعمورة. وفي نهاية المطاف، لن تثبت إلا مملكة المسيح وآنئذٍ كل ركبة وكل نفسٍ، وكل قلب تسجد، وتخضع لملك الملوك ورب الأرباب، فادي العالمين.
ثالثًا، إن الاضطهادات تطهّر الكنيسة من أدرانها، وتنتشلها من حالة الخمول والتقاعس، وتضرمها بالقوة من جديد، وتصفّيها من الدخلاء، والمرائين، والمتظاهرين بالإيمان، بل تنقيها من الشوائب، وتجعلها كالذهب المصفّى، فيشعّ بريقها نورًا ساطعًا شهادة حية على عمل المسيح في حياتها، من غير أن تشنّ حربًا عوانًا، أو تدمّر مدنًا، أو ترتكب المذابح والفظائع، إنما بفضل صبرها، ومحبتها وإيمانها الراسخ، وتحمّلها الحليم لكل الضيقات والاضطهادات والمصائب التي تنزل بها. إنها في جميع هذه الظروف المرعبة تقف شامخة الرأس، جبارة في وفائها لسيدها، غالبة في ثباتها وشهادتها، نامية بصمودها ومحبتها.
وأخيرًا أقول: إن الاضطهادات تثمر نهضات لأنها تعرب عن صدق مواعيد المسيح وعن الحقيقة الأزلية أن الكلمة الأخيرة، مهما ساءت الأحوال، هي للمسيح وللمسيح وحده.
إن كل ما يجري الآن من اضطهادات على الكنيسة في بعض أنحاء العالم ليس سوى فصل من فصول محاولات إبليس لأنه يعلم علم اليقين أنه قد أشرف على نهايته لأن المسيح آتٍ عن قريب. إن الكنيسة وإن كانت تعيش في هذا العالم، وإن كان عليها أن تحمل صليبها كل يوم كأعظم سمة لإيمانها بالمسيح، فإنها في الواقع ليست من هذا العالم، ولن تكون.