انطلق يسوع من وادي الأردن تاركًا اليهودية صاعدًا إلى الجليل مجتازًا السامرة... الطريق إلى سوخار وعر بين تلال وجبال صخرية، لكنه يصل إلى بئر يعقوب وبساتين الزيتون المنتشرة حوله. جلس على حافة البئر بينما انطلق التلاميذ إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا. هبت نسمة رطبة وسط حرارة منتصف النهار الحارقة، أغمض عينيه مستمتعًا بها.
سمع صوت خطوات واهنة متعثرة تنزلق على حجارة الطريق وتحدث صوتًا كالأنين! فتح أجفانه فرأى امرأة في منتصف العمر تحمل على رأسها جرة مقبلة نحو البئر.
كان من عادة المستقيات أن يأتين لملء جرارهن في الصباح الباكر أو في أول المساء تفاديًا لحرارة الشمس. هذه جاءت في وقت شاذ غريب. جاءت في وقت الظهيرة! المكان خال ولا أحد في المكان. صمت وهدوء وسكون. لا صوت إلا همسات نسمات الريح التي تخترق أوراق أشجار التين التي تحيط بالبئر. توقفت المرأة وتلفتت حولها. نظر إليها يسوع وبادرها بالقول:
أعطيني لأشرب.
بدا صوته شاذًا غريبًا مزّق الصمت وبدأ الحوار.
تجرّأت المرأة ورفعت وجهها المحني تأدّبًا واحترامًا للرجل الغريب الجالس على البئر. نظرت إليه وعيناها تعكسان دهشة وتعجبًا واستنكارًا. كيف؟ كيف وهي امرأة! وهي سامرية! كيف يوجه إليها رجل يهودي حديثًا؟ كيف واليهود لا يتعاملون مع السامريين خيرًا كان أو شرًا؟
كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟
أدرك يسوع أنه قد أصاب الهدف ولمس وترًا حساسًا في مشاعرها فاستمرّ في الحديث محاولاً كسر حاجز الجمود الذي أحاطت نفسها به:
لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيًا.
زادت حيرتها وتحرّكت مشاعرها في داخلها رغبة في اكتشاف المزيد عن هذا الرجل العجيب، فسألته في حب واستطلاع جارف:
يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحي؟ ألعلّك أعظم من أبينا يعقوب؟
ابتسم يسوع وواجه تحدّي تلك المرأة الجريئة بالاستمرار في الحوار وإثارة اهتمامها وتحريك رغبتها في معرفة الحق. فجّر حقيقة لم تكن تدركها وقال:
كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.
انزعجت وتساءلت:
ما هذا؟ ماء بئر يعقوب معطشة! وهذا الماء لا عطش بعده إلى الأبد؟! هو إذًا أعظم من يعقوب!
اندفعت ترجوه قائلة:
يا سيد، أعطني هذا الماء.
اذهبي وادعي زوجك وتعالي.
ليس لي زوج.
ثلاث كلمات كان يمكن أن تنهي الحوار وتعود فارغة كما جاءت. لكن يسوع أحبها، أحبها كما هي ولم يردْ أن ينهي حديثه معها ويتركها كما هي؟ استعاد سيطرته على الحوار وأظهر إعجابه بصدقها وأعلمهما أنه يعرف كل شيء عنها وعن الرجال الذين في حياتها. أرادت أن تجد لنفسها مخرجًا وتحوّل الحوار إلى قضية عقائدية قديمة مثارة بين اليهود والسامريين التي لا يملون الحديث عنها.
يا سيد، أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه.
كان يمكن أن يستمر الحوار ساعات بلا جدوى، لكن يسوع لم يكن رجلاً يهوديًا عاديًا. أجابها بسلطان كلامًا غريبًا لم تسمع مثله من قبل.
تأتي ساعة وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.
صدمتها دعوته الله بالآب. حاولت مرة أخرى تحويل الحديث عنها وترك الأمر لرجال الدين وقالت لإنهاء الحوار:
متى جاء المسيا يخبرنا بكل شيء.
لم يتوقف يسوع واستمر يتابع الحوار. واجهها بحقيقته كاملة كما لم يعلنها لأحد إلا بيلاطس البنطي الوالي حين كان يحاكمه. قال بوضوح وصدق:
أنا الذي أكلمك هو.
*****
عاد التلاميذ حاملين الطعام وتعجبوا حين رأوه يتكلم مع امرأة سامرية. تركت المرأة جرتها فارغة عند البئر وعادت إلى المدينة تدعو الناس:
هلموا انظروا. قال لي كل ما فعلت. ألعلّ هذا هو المسيح؟
دعاه التلاميذ أن يأكل من الطعام الذي أحضروه. قال لهم:
طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله. أما تقولون إنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد؟ ها أنا أقول لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضّت للحصاد.
عادت المرأة وسط جمهور كبير من سوخار وطلبوا أن يمكث عندهم، ومكث وآمن به كثيرون.
*****
اقترب منا ونحن نقرأ كتابنا وسألنا إن كنا مسلمين. ولما رأى دهشتنا للسؤال برره بأنه مسلم حديث الإيمان وأنه أسلم لأنه وجد في الإسلام انضباطًا والتزامًا واحترامًا للقوانين والشرائع. سألناه إن كان لم ير في المسيحيين ذلك. أجاب بالنفي. خسارة أن يكون في سلوكنا ما يبعد الناس عن الإيمان بالمسيح الذي قال: "فليضئْ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات."
ليت نورنا يعود فيضيء لينير من جديد بعد سنوات من الظلام.
