تدور هذه القصة حول ظهور الرب يسوع لتلميذين أثناء سيرهما في الطريق إلى عمواس، وتسلّط الضوء على الرّجاء الحي بقيامة ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح (لوقا 13:24-35)، فلنتأمل في وضع هذين التلميذين:
1- كان العبوس والانكسار باديين عليهما: اختبر التلميذان حزن وألم الموت، وفراق المعلَّم والرَّب والقائد. لقد كانا يعانيان من خيبة الأمل والشّكوك والحيرة والهزيمة. تركا الرّسل في حالة يأس وانخفاض للمعنويّات وإحباط، وأرادا الخروج من الجو الكئيب بالعودة إلى بيتهما في عمواس.
كانا "عابسين" وفاقدَي الرجاء من فرط الحزن والألم والخسارة (العددان 17 و21) والحيرة تملأ حياتيهما (ع 22). فالمعلّم الّذي وَقَّراه وأحبّاه وتبعاه قد صُلِبَ وقُتِلَ بطريقة وحشيّة وفظيعة ومخجلة، إذ جُعِلَ منظرًا للعالم ليشاهده الجميع. فقبل أسبوع واحد من الصّلب، كانت الجموع تهتف: "أوصنّا" لهذا المعلّم، وارتفعت المعنويات بقرب الخلاص من روما وجنودها. ولكن، من تعلّقت به الآمال هو الآن ميتٌ ومدفون في قبر حجري. لقد تلاشت الأحلام وتحطّمت الآمال!
إن حقيقة سفَر التّلميذين من أورشليم إلى عمواس يدلُّ على أن جماعة التّلاميذ قد بدأت تتفكك على أثر موت الرَّب يسوع. ويبدو أن الخبر الّذي حملته النسوة عن القبر الفارغ لم يحيِ آمال التّلاميذ بل زادهم حيرة وارتباكًا. لقد تحطّم عالم التّلاميذ، والدليل على ذلك أن تلميذين محبطين تركا بقية التلاميذ ليعودا إلى بيتهما، وقد لَخَّصا موقفهما بالقول: "وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ." (لوقا 21:24) أي إنّهما فقدا الأمل نهائيًّا. مات رجاؤهما ولم يعد لهما مكان في أورشليم، فتركا المدينة بروح الهزيمة إلى عمواس. ما أصعب هذا الموقف! كانا يحلمان بأمور عظيمة، ولكن أحلامهما تحطمت عند الصليب، وسافرا بقلوب منكسرة.
كثيرون منا اليوم يسيرون في طريقهم مثل تلميذي عمواس: الآمال محطمة، والعبوس على الوجوه، ولا رجاء في الحياة. كثيرون يهربون من واقع مؤلم ولا يختبرون معنى الحياة المنتصرة. وعندما تتحطم الآمال، يصعب إحياؤها من جديد. فاليأس مرض علاجه عسير.
ولكن الرَّب لم ولن يتركنا في اليأس والإحباط والفشل. وهذا ما فعله مع تلميذي عمواس، وما يزال يفعله اليوم، وسيبقى كذلك إلى الأبد، لأنّه وحده مصدر الأمل والرّجاء، الّذي يعيد لكل منّا الإحساس بالأمل والثّقة بمستقبل أفضل.
أثناء سير تلميذي عمواس، جاء الرَّب يسوع المسيح الحي والمقام من بين الأموات ورافقهما في الطريق. ولكن كانت المشكلة مع التّلميذين أنّهما لم يعرفاه كما نقرأ في عدد 16: "أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ." وهذا أمر طبيعي عند الألم والحزن وضياع الأمل. فحالتاهما النفسيّة وانشغالهما بالحزن لم تسعفاهما على فتح عيونهما والنّظر إلى الشّخص الّذي انضم لمسيرتهما. لقد كانا منشغلين جدًّا بأنفسهما لدرجة أنّهما لم يلاحظا أنّ الّذي سار معهما هو الرَّب نفسه.
ما أعظم وما أروع ربنا يسوع! فهو لا يتركنا في حالة الضياع والحيرة والألم، بل يأتي إلينا في الوقت المناسب ليبدّد أحزاننا ويحيي رجاءنا.
سار الرَّب يسوع مع تلميذَي عمواس دون أن يدركا من هو، وها هو يسير الآن مع كثيرين منا دون أن نعرف من هو. كان كالغريب بالنّسبة لهما، مع أنه سار معهما وتحدّث إليهما. ولم يتغير الحال اليوم: الرَّب يسير مع الكثيرين، ويبارك الكثيرين، ويستمع إليهم، لكنه غريب بالنسبة لهم.
ما الذي أمسك عيونهما عن معرفته؟ هل هو الحزن والغم والحسرة والرجاء المحطم، أم التغيير الذي حدث في شكل جسد الرَّب المقام من بين الأموات، فلم يستطيعا معرفته في جسده الممّجد؟
كثير من النَّاس في أيامنا لا يعرفون الرّب يسوع بسبب زحمة الحياة وكثرة مشاكلها، والطقوس والعادات. وبسبب ضعف الإيمان، ومع ذلك فالرَّب دائمًا يجدد لنا الفرص لنعرفه كما هو.
سألهما رب المجد يسوع، والّذي كان بمثابة شّخص غريب بالنّسبة لهما: "مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ؟" وفي جوابهما، سكبا آلامهما وأحزانهما لشخص كان لديه الاستعداد أن يسمع لآلام قلوبهما. لقد كان بقدرة الرَّب يسوع أن يفاجئهما بالحقيقة المفرحة، ولكنّه تعامل مع الأمر بهدوء وسكينة. فلقد أعطاهما أولًا فرصةً لتفريغ ما في قلبيهما من حزن وألم وخيبة أمل، وبالتدريج قادهما إلى إدراك الحقيقة.
كان تلميذا عمواس بحاجة إلى من يرافقهما في وقت الحزن ويستمع لآلام قلبيهما. وهذا ما عمله الرَّب يسوع وما زال مستعدًا أن يرافقنا في مسيرة الحياة ليستمع لآلام قلوبنا ويقودنا إلى النّجاح والخلاص. لقد تحّولت تجربة تلميذي عمواس من انكسار القلب إلى:
2) قلبين مملوءين بالأمل والفرح: بعد أن سألهما الرَّب عن الأمور التّي كانا يتكلمان عنها. أجاب كَلِيُوبَاسُ في الآية 18: "هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعلم الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟" واضح من الجواب، أن كَلِيُوبَاسُ تشجّع بعض الشّيء بسبب السّؤال، لأنّها كانت فرصة للحديث عن الرَّب يسوع المسيح وسط الحيرة والألم وفقدان الأمل.
إذا تأمّلنا فيما قاله كَلْيُوبَاسُ، فسنجد أنّ اختبارهما مع الرَّب أصبح شيئًا من الماضي، قال عن الرَّب: "أنّهُ كانَ نَبِيًّا مُقْتَدِرًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ." أما الآن فهما منسحقَو النّفس والرّوح، إذ أخذ الموت الرَّب منهما، فالصّليب كان فظيعًا وأنهى كل آمالهما. نلاحظ هنا. فمع أن الرَّب يسوع علَّم التلاميذ بأنه هو والآب واحد، وأنه الطريق والحق والحياة، ومن رآه فقد رأى الآب - أي علَّمهم بأنه الله - ومع ذلك لم يستوعبا ولم يفهما ما قاله لهما.
نسمع من وقت لآخر شهادات واختبارات عمّا فعله الرَّب يسوع في الماضي، ولكن ما الّذي يفعله الآن؟ فالماضي أصبح جزءًا من التاريخ، وعلينا كمؤمنين أن نسأل: ما الّذي يعمله الرَّب يسوع الآن في حياتنا وفي كنيستنا وبلادنا بل وفي العالم أجمع؟ هل ندرك حقًا حضور الرَّب اليومي معنا؟ أم أن مُلهّيات الحياة، مثل العمل والروتين والتّعب والصّحة والمرض والمناسبات، تبعدنا عن الرَّب، بحيث لا نعود نرفع عيوننا ولا نفتح عقولنا بعيدًا عن أمور الحياة اليومية الأرضية؟ يبدو أننا لم نعد ندرك مجد حضور الرَّب معنا وقوّته. ما أسهل أن تفقد الحياة معناها، ولكن ما حدث في الطّريق إلى عمواس يعيد لنا الرّجاء.
ما برح الرَّب معنا. فهو الضّيف غير المرئي يسير معنا ويستمع لآلام قلوبنا. فالمشكلة ليست فيه بل فينا. فإن أردنا أن نسمع صوته ويعلن ذاته لنا، فهو مستعد دائمًا. ولكن هل نحن مستعدون؟!
بعد أن تكلّم كَلِيُوبَاسُ عن الألم والموت والصّليب، حان الوقت للرَّب يسوع أن يجيبهما بكلمات تبعد الحزن والحيرة وتملأ القلوب بالحياة والرّجاء. حيث "ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ." (لوقا 27:24) لقد أعطى الرَّب يسوع تلميذي عمواس أجمل درس في تفسير العهد القديم. وعندها فقط فهما نبوّات وظلال ورموز العهد القديم. لا بد أنّه حدّثهما عن سقوط آدم وحواء في الخطيّة ووعد الله لهما بالخلاص. وعن إبراهيم وفداء ابنه إسحاق بالذّبيحة. وعن حَمَل الفصح. وعن الحيّة النحاسيّة، وعن النبوّات الكثيرة وخصوصًا فيما يتعلّق بالعبد المتألم في إشعياء 53. وأهم ما قاله لهما: "أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟" (لوقا 26:24)
لقد كانت مشكلة التلميذين هي في فهم رسالة الصّليب وقبول حقيقة ما جرى، لذلك ساعدهما الرَّب أن يدركا بأن الصّليب هو الطّريق الوحيد للفداء والخلاص والحياة الأبدية لكل من يأتي إلى الرَّب يسوع بالتّوبة والإيمان.
عندما يأتي الرَّب يسوع إلى حياتنا، فإنّه يُشْعِل أفكارنا بقصد أن يباركنا، والسّؤال هو: كيف نتجاوب معه؟ هل نقبل مبادرته ونجعله يكلمنا مثلما فعل مع تلميذي عمواس؟ أم نرفضه ونبقى في فشلنا وحزننا؟
3) اشتعلت قلوبهما باختبار جديد: أثناء حديث الرَّب معهما، لم يدركا المدة الزمنية التّي مرّت عليهما بشكل سريع. وعندما اقتربا إلى عمواس، لم يرد الرَّب يسوع أن يفرض نفسه عليهما "فَتَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ" (آية 28). لن يأتِ الرَّب إلى حياتنا بدون دعوة شخصيّة منّا. فهو يريدنا أن نطلبه بإرادتنا من كل القلب، وهذا ما فعله تلميذا عمواس حيث نقرأ أنّهما "أَلْزَمَاهُ"، أي طلبا منه بإلحاح.
في البيت، تم تحضير عشاء بسيط لثلاثتهم، وقبل تناول الطعام، "أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا"، هذه الحركة من قبل الرَّب كانت اللحظة الحاسمة والأخيرة التي ساعدت التلميذين ليدركا حقيقة الشّخص الّذي رافقهما وحدّثهما في الطريق. لقد تذكّرا موضوع البركة وكسر الخبز، وشاهدا آثار المسامير على يديه وهو يكسر لهما الخبز، لذلك "انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ" (لوقا 31:24).
وعندها قالا: "أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِبًا فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟" (لوقا 32:24). التهب قلبا تلميذي عمواس من حديث الرَّب. وصلاتي اليوم أن تلتهب قلوبنا أيضًا عندما نقرأ أو نسمع كلمات الرَّب يسوع.
ولكنّنا نحتاج حقًا إلى نار تلهب قلوبنا لندرك معنى قولنا أنّ الرَّب يسوع قام، وأنّه حي، وأنّه معنا، وأنّه هو الرّجاء الوحيد لعالمنا.
لم يضيِّع تلميذا عمواس الوقت، وعادا إلى أورشليم لإخبار التلاميذ بالخبر العظيم. فهل نسرع إلى العالم لنخبرهم بأن الرَّب حي؟ وأنّه يحبّهم؟ وأنّه يريد لهم الحياة الأفضل؟