النور أضاء فازدانت الغرفةُ باللمعان والبهاء، وسمعتْ مريم العذراء صوت الملاك الآتي من السماء، يحمل إليها بشارة ولا كل البشائر، ويقول كلامًا طالما انتظرته كلُّ النساء، وتاقت لسماعه أجيالٌ وأجيال بعد طول عناء!
مريم العذراء فازتْ بالاصطفاء، وحلَّ عليها السلامُ وبشَّرها الملاكُ بخبرٍ من العلاء
بأنَّها ستحمل ابن العلي في الأحشاء، وسيكون الوليد عظيمًا ويُعطَى كرسيَّ النبي داود أبيه لكنَّه سيملك إلى الآباد، أي من دونِ زوالٍ أو انتهاء!
يسوعُ اسمه، والقدوسُ هو، والروح القدس وقوة العلي سيخيِّمان على مريم ويظلِّلانها، لأنَّ المولودَ منها يُدعى ابن الله. إزاءَ بشرى مثل هذه، خضعت العذراء المباركة وأطاعت طاعةً من غير اعتراض على حكمة السماء. فتألُّقُ الضِّياء في غرفة الدار، كان علامةً من العلاء يذوي معها كلُّ شكٍ وخوف وبلاء!
أما يوسفُ البار خطيب العذراء، فلقد أعلنَ له الملاك في حلم رسالةَ اطمئنانٍ له وللملأ، جلبتْ معها الأمانَ والثناء، حين قال له بأنْ لا يخفْ لأنَّ الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. وفعلًا هذا ما أزالَ عنه كلَّ شك وجزَع. خاصةً أن الوليد المنتظر ستدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. لا لم يكنِ الحدثُ عابرًا ولم يحدثْ صدفةً، لكنَّه ومنذ مئاتِ السنين وبوحيِ الروح جاءت النبوة على فم النبي إشعياء لتقول: "ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل." (14:7) فما كان من يوسف إلاَّ أن سلّم بمشيئة الله وفعلَ تمامًا كما أمرهُ ملاكُ السماء وأخذ مريمَ امرأته إلى كنَفه وضمَّها تحت جناحيه وانتظرا كلاهُما معًا لحظةَ السَّعد والهناء حين يتمُّ الأمر السماوي ويُشرق نورُ الفداء بكلِّ انجلاء!
وفعلًا، وفي ليلة الميلاد، وبينما ينامُ العباد، ومَض نور عجيب أضاء ببهائِه حلَك الليل البهيم، وظهر الملاك لرعاةٍ على تلالِ بيتَ لحم يحرسون القطعان ويصدحون بالموسيقى والألحان. فارتاعوا وارتعدوا خوفًا ووَجلًا، ماذا عسانا نرى أحلمًا بالحقِّ أم خيال؟ وللحال زفَّ الملاكُ بشرى ولادة المخلص المسيح الرب للأنام. وأنبأهم بعلامةٍ هي ولادتُه في مذودٍ للبقر وضيع. وبغتةً، جمهورٌ سماوي ظهر في قبَّة السماء، يسبِّح الله العلي بكل احترام، ويخبر عن السرور والحبور بين الناس، وعن حلول الوئام على الأرض والسلام. فقاموا وشدّوا الرِّحال متوجهين إلى حيث المكان، فوجدوا مريم ويوسف والطفل في المذود الحقير، لكنَّه ظهرَ بأبهى مجدٍ وأسمى مقام، كما نطق الملاك بالتمام، وبُهتوا ومجّدوا الله وسبّحوه لِما رأوه من واقع وليس في منام!
ومجوسٌ من المشرق لفتَ نظرَهم نجمٌ غريب متلألئٌ في اللمعان، ومميَّزٌ في الإعلان. ينبئ عن مولود له من القيمة والقدْر الكثير. أتوا يتبعونه من بعيد إلى أن وصلوا إلى القصر الذي لا بدَّ أن يكون مسقطَ رأس المليك الجديد. وسألوا: أين هو المولود ملك اليهود؟ لأنَّ نورَ نجمه بدا لنا مرشِدًا من المشرقِ البعيد. اضطرب للحال سكانُ القصر المقيمون، وساءَ الظنَّ الملكُ هيرودس الكبير، وارتعدَ هو وأهلُ بيته خوفًا على عرشهِ من الزوال والانتهاء. ولمّا تثبَّت له الأمرُ بأنَّ المسيح فعلًا سيأتي وسيولد في بيت لحم فلسطين، بحسب الكتب والأنبياء، بدأ من شدةِ غيظِه في رسم خطةٍ في رأسه للتخلُّص من هذا المليك الموعود. أما المجوسُ فذهبوا إلى بيت لحم متتبِّعين إرشادَ النجم الساطع حتى أتوا إلى البيت. وهناك خرُّوا وسجدوا للمليكِ المولود وقدَّموا هداياهم من ذهب ومُرٍّ ولُبان. ثمّ إذ أوحيَ إليهم في حُلم أن لا يرجعوا إلى القصر، انصرفوا إلى كورتهم. ورُغمَ محاولة هيرودس البطشَ بيسوعَ المسيح عن طريق قتل الأطفال جميعًا من سنتين فما دون، إلا أنَّ يسوعَ المليكَ الموعود لم يمسّه أذىً لأنَّ ملاك الرب من السماء ظهر ليوسف في حُلم وأمره بأخذ الصبي وأمه والهروب بهما إلى مصر ولم يعودوا إلاَّ بعدَ أن مات هيرودس الكبير.
لم يستطع أعداؤه التخلُّص منه، لأنَّه جاء نورًا للناس من السماء وإعلانًا للمَلأ ليصنع الفداء. تمامًا كما صرَّح الوحي فيما بعد على لسان التلميذ يوحنا الذي رأى وعايَن وشهد هذا النورُ الساطع يضيء ظلماتِ الإنسان. فكتب عن المسيح الكلمة المتجسد: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس... كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيا إلى العالم." (يوحنا 1)
أجل، وتبدَّد الظلام منذُ ذلك الحين، إذ أشرقَ النورُ البهي في أرضنا، وانقشعتْ غيومٌ سوداء كالحةٌ داكنة. أتى النور ليسطعَ في القلوب ويضيء الدّروب. وتمَّ قولُ النبي إشعياء عندما تركَ يسوعُ المسيح الناصرة في بداية خدمته وأتى إلى كفرناحوم التي عند البحر: "أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن، جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور." هذه الأراضي التي تركَ شعبُها الله وعصى أمره وابتعد، فعاش في ظلام دامس، عاد وافتقدَها نور المسيح إذ أشرقَ عليها وأنار لشعبها الطريق من جديد. وعمَّ هذا الضياءُ المنير عالمَ البشر من كبيرٍ وصغير من كل الخلفيات والمعتقدات. حتى كل مَن يُقبل إلى النور يعيش في النور إلى الأبد.
وصرَّح يسوع المسيح نفسه قائلًا: "أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة." (يوحنا 8:12) ولأنه نور العالم الحقيقي استطاع أن يفتحَ أعين العمي ويردَّ البصر إليهم. ولأنه النور الذي أتى من السماء معلنًا أنَّ الله الآب نورٌ وليس فيه ظلمةٌ البتة، استطاعَ أن يخترقَ حاجزَ عمى البصيرة ويردَّ قلوب الكثيرين إلى طريق الصواب فأنار لهم الحياة والخلود.
وكيف لنا أن ننسى هذا النورَ الوضاء الذي ظهر لشاول الطرسوسي على طريق دمشق؟ شاول مضطهد أتباع المسيح وكيف أوقعه هذا النورُ عن فرسه، وأرداه أرضًا، لِما فيه من قوة علويةٍ بهيّة، أعمى هذا النورُ الوهاج عينيه حتى راحَ يتلمَّس طريقه مرتعدًا وخائفًا. هذا النور نفسه حوَّل شاول القاسي القلب إلى تابعٍ حقيقي للمسيح الذي كان يضطهده هو.
وماذا تُرانا نقول عن شهاداتٍ عديدة من الرؤى والأحلام التي رآها وما زال يراها الكثيرون، عن المسيح ومجده البهي وهو يُظهر ذاتَه لهم ليعرِّفَهم عن شخصه وفدائه وحبه وحنانه؟ وتتكرر الأحداث ليس في بلدٍ واحد بل في بلدان، وليس في القرى والضِّياع بل في المدن وحتى في قلب القصور والسجون والقِلاع. كم من مرةٍ سمعتُ وقرأت عن أناس مضطهدين أُودِعوا السُّجون بسبب إيمانهم بالمسيح، هؤلاء كانوا يخطُّون على الحائط بأنَّ يسوع كان حاضرًا معهم فشعروا بالأمان والسلام وهم يجتازون في أصعب الأوقات بسبب التعذيب والترهيب. كان نور المسيح يضيء قلوبَهم بالرغم من الظلمة الدامسة من حولهم.
نعم، وحده نورُ المسيح يبدِّد الظلامَ الأبدي، وينيرُ البصيرةَ الروحية، لأنَّه وحدَه جاء إلى الأرض لِيهَب البشرية كلَّها رجاءً. هو الذي أنار الحياة والخلود، الحياة التي لا يمكن أن تُباع أو تشترى لكنَّها تعُطى كهبةٍ فقط. ويسوع لا يهَبُها إلَّا لمَن يريدها. يسوع الذي به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. هو خالق الحياة وحياته تمنح النور للبشرية. وعلى ضوء نوره الساطع هذا نرى أنفسنا على حقيقتها. فليت هذا
"النور ينوِّر حياتَكنورُ المسيح العجيب ويغسلك من ذنوبكيســـوع بــدم الصليـب
عندها تكون حقًا قد رأيت النور، وأبصرت النور، وسلكْتَ في النور، وصرتَ أنت تعكس نورَ المسيح لأنه قال عن أتباعه الحقيقيين:
أنتم نور العالم.