من بين أنبياء العهد القديم (عهد التوراة) عاش نبي في القرن الثامن قبل الميلاد يدعى "ميخا". ولميخا النبي سفر بين أسفار الكتاب المقدس يحمل اسمه يحتوي على سبعة أصحاحات. ميخا رجل ريفي من بيئة زراعية خصبة في القسم الجنوبي لفلسطين تدعى منطقة يهوذا. لم يكن له شهرة دينية أو سياسية أو اجتماعية تذكر، إنما كان مجرد مواطن مؤمن بالله، رجلٌ تقي يتمتع بعلاقة شخصية بإلهه،
فاختاره الله من بين رفاقه ليقوم بمهمة جريئة ليبلِّغ رسالة إنذار لشعبه وقادة بلاده وكهنتهم بسبب حالة التردي والفساد الديني والانحطاط الخُلُقي والمظالم الاجتماعية التي انتشرت في البلاد وليس من يرفع صوته ويقول كفى.
قَبِل ميخا المهمة من الرب وبدأ فكتب ما أُوحي إليه، وأعلن الرسالة للأمة بكل جرأة رغم ما تحمّله من حرجٍ من قادة شعبه.
وبينما كان ميخا يكتب ما أُوحِي إليه، تفجّرت أمامه معلومة نبويَّة تُنْبئ عن أمل آت بقدوم عظيم له سلطان مهيب، وهو كائنٌ أزلي سيخرج من بيت لحم، تلك القرية الصغيرة التي لا تُحسب في الشهرة بين مدن البلاد.
لعل ميخا في حينه لم يدرك ما ترمي إليه تلك النبوة من أبعاد. ثم إن الشعب المُخاطب بتلك النبوة شعب موحِّدٌ بالله، لا يؤمن بتعدد الآلهة ولا بتنازل الآلهة على الأرض والتشبه بالناس! فالنبوة بدت أمامه مُغلَّفة بالإبهام.
لم يتوقّف ميخا عند ما أُبهم عليه، باعتبار أنه مجرد رسول مكلف بحمل رسالة ينقلها للناس، وما غمض منها فهو في علم الله. تقول النبوة كما وردت في مطلع الأصحاح الخامس من سفر ميخا: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنتِ صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل."
قرأ كهنة اليهود وحراس الشريعة الموسوية ما ورد في هذه النبوة مرارًا وتكرارًا عبر عصورهم المتعاقبة، وربما توقّفوا عندها لبعض الوقت، ولما لم يفهموا ما تعنيه تجاوزوها دون أن يتساءل أحد من يا ترى يكون هذا العظيم القادم من بيت لحم. ومرت قرون من الزمن إلى أن جاء الميعاد.
ونحن اليوم لو بحثنا في تاريخ بيت لحم القديمة لنتعرف على عظماء ربما خرجوا منها، يبرز أمامنا داود ابن يسّى البيتلحمي كما يصفه الكتاب والذي أصبح نبيًّا، لكن داود كمخلوق بشري لا يمكن أن يتّصف بالأزلية، فالنبوة لا تعنيه.
أما العظيم الوحيد الذي ينطبق عليه الوصف فهو من وُلد في بيت لحم قبل ألفي عام وخرج منها للعالم أجمع، وامتلك سلطانًا مهيبًا، هو رب المجد يسوع المسيح الذي قال فيه الإنجيل: "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده."
بميلاد المسيح اكتسبت بيت لحم شهرة عالمية سمت على مدن العالم قاطبة. ومن بيت لحم بدأ التاريخ يُدوِّنُ الأحداثَ فيما قبل الميلاد وما بعده، وعلى أثره تبنَّت الشعوب قاطبةً تقويم ميلاده اعترافًا ضمنيًا بعظمة الحدث الذي تبين فيه أن الله زار أرضًا طردنا إليها بعد سقطة آدم، ليصالحنا مع شخصه، فجاء متجسدًا بهيئة إنسان حبًا بنا وسعيًا لنجاتنا لأن الله محبة، فقال فيه الإنجيل: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد."
فعندما نطق ميخا بنبوته تلك، كان يشير إلى عملية التجسّد دون أن يدرك أبعادها. إنما نقلها بأمانة كما تسلمها.
أزلية المسيح ليست منحة من أحد يقدّمها إليه، كما يتوهّم البعض من خارج الوسط المسيحي.
في حديث للمسيح مع جماعة من اليهود كانوا يتباهون بأنهم من نسل إبراهيم ويجادلونه، قال لهم: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح." فقالوا: "ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟" فرد عليهم: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن." (يوحنا 56:8-58)
نحن اليوم نعلم أن إبراهيم عاش ومات قبل ميلاد المسيح بألفي عام أو يزيد، أما المسيح كلمة الله الذي صار جسدًا، فهو موجود قبل كل الوجود. إذ يقول الإنجيل فيه: "كل شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان." (يوحنا 3:1)
نبوة ميخا تزامنت مع نبوة أخرى فاه بها إشعياء النبي الذي تفرّد بالتنبؤ عن معجزة الميلاد العذراوي إذ قال في الأصحاح السابع من سفره: "يعطيكم السيد نفسه آية (أي معجزة): ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل." وعاد في الأصحاح التاسع وأنبأ عن فيض فرحٍ آتٍ بمجيء مولود العذراء فقال: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور. أكثرتَ الأمة. عظمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد. كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة." ويفسر إشعياء سبب هذا الفرح الغامر بالكلمات التالية:
"لأنه يولد لنا ولد، ونُعْطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه."
لم يكتفِ إشعياء بهذه البيانات، بل أتبعها ببيان هوية مولود العذراء فقال: "ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيس السلام. لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية."
* * * * * *
ولكي يتمّ الميلاد في الزمان والمكان الذي أُنبئ عنه، ألهم الله أصحاب القرار في الدولة الرومانية بأن تجري اكتتابًا للشعب، فأصدرت مرسومًا يُلزم كل مواطن أن يُكتتب في بلده الأصلي. وكانت العذراء حينها تسكن في الناصرة في شمال فلسطين بعيدًا عن موطنها الأصلي بيت لحم، وكذلك كان يوسف خطيب العذراء الذي وجد في مهنة النجارة مورد رزق له في الناصرة، وهو أيضًا ينتمي إلى أرض يهوذا التي تشمل بيت لحم ومحيطها في جنوب البلاد.
فامتثالاً لأمر الدولة التزمت العذراء أن تسافر من الناصرة برفقة يوسف إلى بيت لحم مسافة تصل إلى 120 كيلومترًا ليُكتتبا هناك، وغالبًا ما استخدما الدواب في رحلة تستغرق نهارًا كاملًا، لا سيّما أن العذراء كانت في شهرها التاسع. وعندما وصلا بيت لحم، لم يجدا مكانًا ينزلان فيه، فالمدينة كانت مكتظة بالزوار القادمين لنفس الغرض، فاضطرا أن ينزلا في خان للماشية أو زريبة على شكل مغارة أرضيتها من تبن وتحوي مذودًا توضع فيها أعلاف الماشية، وربما بعض تلك الماشية شاركتهما المبيت في ذات المكان تلك الليلة وما بعدها إلى انتهاء الأزمة.
في تلك الليلة حان موعد الولادة، ووُلد يسوع في هذا المكان المتواضع، فقمَّطته أمه واتخذت من المذود سريرًا لوليدها افترشته بالتبن. وأبت السماء أن تبقى الأمور هكذا في ليلة الميلاد.
فبينما كان بعض الرعاة من البدو في تلك الليلة يسهرون على أغنامهم في برية مجاورة لبيت لحم (تُعرفُ اليوم ببيت ساحور) أبرق حولهم نور ساطع لم يألفوه من قبل، فخافوا خوفًا عظيمًا، وظهر لهم ملاك وقال: "لا تخافوا! فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة: تجدون طفلًا مُقمَّطًا مُضْجعًا في مذود." ثم ظهر مع الملاك جمهور من الجند السماوي مُسبحين الله وقائلين: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة."
ولما انتهى المشهد أمامهم قال الرعاة بعضهم لبعض: لما الانتظار! هيا بنا إلى بيت لحم لننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب، وجاءوا مسرعين... لم يمنعهم انشغالهم بحراسة الأغنام من مغادرة المكان ليروا المشهد العجيب الذي أُخبروا به، وهم رعاة يعيشون حياتهم في البراري، ويُفترض أنهم من أقل الناس ثقافة، ومعلوماتهم الدينية بسيطة، ومع ذلك استحقوا أن يكونوا أول من بشروا بميلاد المسيح مخلص العالم.
كنا ننتظر أن كهنة الشعب وقادة الأمة من حراس الشريعة هم أول من يستقبل الخبر السار، لكن أولئك أشغلتهم طقوس دينية جامدة اعتادوا عليها، فأفقدتهم الحس الروحي وشفافية العبادة ومتابعة ما في الكتب من علامات، فكان هؤلاء الرعاة البسطاء أولى منهم في استقبال أعظم بشرى عرفتها البشرية.
لم ينته المشهد هنا، فالأفلاك أيضا شاركت في الاحتفال بميلاده.
متى الإنجيلي أطلعنا على حدث آخر غاية في العجب، فروى لنا قصة رجالٍ مجوسٍ جاءوا من بلاد المشرق يتساءلون: أين هو المولود ملك اليهود؟ وكان دليلهم في الطريق نجم أوصلهم إلى حيث كان المولود واختفى. يحتار البعض في أمر هؤلاء المجوس ويتساءلون: من أي بلد جاء هؤلاء؟ وكيف عرفوا عن ميلاده في أرض بعيدة؟ من أخبرهم؟، وكم من الوقت استغرقوا في الطريق؟ وكيف ميَّزوا أن المولود هو ملك؟ وعندما عادوا إلى ديارهم، ما تأثير ما نشروه من أخبار؟
أسئلة تتردد في أذهان البعض دافعها حب الاستطلاع، وقد لا نعرف لها جوابًا، لكنها في علم الله. يُفْترضُ أنْ يكون عدد هؤلاء المجوس ثلاثة رجال، نظرًا لهداياهم الثلاث التي قدموها للمولود (ذهبًا ولبانًا ومرًّا) وهي هدايا مدروسة جيدًا نبويًّا، ومُعبِّرة بعناية عما ترمز إليه، تنبئ بأن المولود سيقوم بمهام ثلاث: سيكون ملكًا يملك على القلوب فقدّموا له ذهبًا، وسيكون كاهنًا نبيًّا يقدم القرابين لمغفرة الخطايا، فقدّموا له لبانًا (بخور)، وسيذوق الألم فقدّموا له المرَّ (إشارة للصليب).
واضح أن هؤلاء المجوس، يسميهم البعض بالحكماء، أنهم كانوا على مستوىً عالٍ من العلم والثقافة والتحضُّر، بينما الرعاة كما أشرنا كانوا في منتهى البساطة، ومع ذلك فالطرفان شاركا في الاحتفال بالميلاد، بطيب قلبٍ وحسن نيةٍ وولاءٍ صادقٍ، كلٌّ أدّى مهمته بطريقته على أكمل وجه، ولما لا؟! فالمسيح لكل الناس، للغني وللفقير، للمثقف وللجاهل، للصغير وللكبير، للبدوي ابن الصحراء ولابن المدينة على حدٍّ سواء، للمسيحي ولغير المسيحي، للمسلم ولليهودي، للدرزي ولليزيدي، للوثني وللملحد... فقط المطلوب أن ينفتح القلب له أيًا كانت خلفية طالب من يلجأ إليه. يقول: تعال إليّ وأنا أريحك. اطرح عنك عباءة أثقلتك طويلًا وأتعبتك، أنت بحاجة لي لأني فديتك.
ملايين اليوم بين شعوب الأرض يعرفون الرب ونحن نجهلهم. لا نعرفهم، غير مسجلين في كنائسنا لأسباب هم يعرفون تفاصيلها! للبحث عنهم نحتاج للجرأة. هم كهؤلاء المجوس الذين لم يكونوا يهودًا، بل من الديانة السائدة آنذاك؛ غير معروفين لليهود حراس الشريعة، وليسوا من شعب الرب، بل في حساباتنا غرباء عن عهود الموعد. لكن بطريقة نجهلها عرفوا الرب وآمنوا به وصاروا من أتباعه فكلفهم بمهمة ذات شأن، ونشر خبرهم للملأ، جاءوا وسجدوا وقدموا له الولاء وعادوا بهدوء.
كثيرون هم الذين تخطّوا الحاجز المانع وقفزوا عن المألوف وعبروا إلى الشاطئ الآخر؛ فالرب تعامل معهم مباشرة بطرق متعددة، برؤى، بأحلام، بالإعلام، بوسائل أخرى خفية عنا وخلصوا.
ففي حالة المجوس استخدم الرب النجم ليهديهم الطريق، فتم في ذلك قول الكتاب: "السماوات تُحدِّثُ بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه." (مزمور 1:19)
على كلٍّ، هي حالات استثنائية لها ظروفها، إنما ذلك لا يعفينا نحن شهوده من أن نكرز بالكلمة التي دُعينا إليها "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها."
وصفوة القول في الختام أننا قد تعلمنا من إخواننا المجوس الشيء الكثير. فرغم طول الطريق والعقبات الإجرائية التي مرّوا بها، ورغم المؤامرات التي حيكت حولهم لتحييدهم عن الطريق، استمروا في سعيهم فقدّموا لنا نماذج تُحتذى في مواصلة الدرب بلا ملل، أو تأفف، أو تراجع، أو نظر إلى الوراء، أو فشل، أو استسلام. وكانوا أيضًا مثالًا طيبًا في العطاء والانتماء وحسن الولاء، وأحسنوا فيما قدّموه من تكريم للرب. وعندما انتهت المهمة التي جاءوا لأجلها عادوا بهدوء إلى ديارهم فرحين بما أُنجز، وتركوا للوحي أن يحكي قصتهم للناس كما يشاء.