"جيد للرجل أن يحمل النير في صباه." (مراثي إرميا 27:3)
كرّس الدكتور حبيب جميل خوري حياته للرب ولخدمته وهو شاب في ربيع الحياة. وقد كتب المقال أدناه للشباب في بداية خدمته.
______________________________
عندما كنت صبيًا صغيرًا في العاشرة من عمري تقريبًا، كنت أقرأ كلمات الرب يسوع التي سجلها متى 29:11. كنت كلما أقرأ هذه الكلمات "احملوا نيري عليكم" أقول: إن الرب يسوع يضع على الناس أثقالاً عسرة الحمل. لكنني بعدئذ سألت أحد العالمين بالأمر عن ماهية النير وهدفه. قال:
النير يوضع على عنق ثورين عندما يقومان بفلاحة الأرض. وهذا النير يجمع بين مجهوديهما ويوجههما نحو الهدف المنشود فتسهل العملية وبدونه لا يمكن الوصول إلى الهدف.
والكتاب يقول ما معناه: جيد للرجل أن يحمل النير في صباه، وحمل النير يجعل من الشاب رجلاً قويًّا. أما أولئك الذين لم يتعوّدوا على حمل النير في صباهم نراهم شبانًا مائعين. أولئك الذين لم يتعوّدوا على حمل المسؤولية في بيوتهم فيطرحون ثيابهم هنا وهناك، ويلقون بكتبهم في هذا المكان وذاك، أولئك لن يكونوا رجالاً أقوياء. هؤلاء الذين يحمل أباؤهم لهم "المظلة" فوق رؤوسهم ليحفظوهم من حرارة الشمس، لن يصيروا شيئًا. أما الرسول بولس فنسمعه يقول على سبيل الأمر: "كونوا رجالاً." اسمع أيها الشاب! إذا كنت لا تتعلّم أن تحمل نير المسؤولية في صباك فلن يسمع بك أحد. فتلك الشعوب التي تربّي بنيها وبناتها على تحمّل المسؤولية منذ نعومة أظفارهم، هي الشعوب التي تؤمن أن الكتاب المقدس كان صادقًا عندما قال: "جيد للرجل أن يحمل النير في صباه."
فاحمل النير. إن الله يطلب الآن شبانًا وشابات يحملون نير المسؤولية، وصوت الله لا يزال متسائلاً: "من أرسل؟ ومن يذهب من أجلنا؟"
أفضل مسؤولية
لكل واحد منا نحن الشباب طاقات كامنة جبارة نحتاج لإطلاقها. إننا نملك قوى فكرية، وعاطفية، وجسدية، وكل هذه تحتاج إلى منفذ. وهذه القوى والمواهب نحتاج لأن نستخدمها وإلا انقلبت علينا وحطّمت حياتنا. لنأخذ أوقاتنا مثلاً، فإن لم نستخدمها ونملأها بالأعمال العظيمة، تنقلب علينا بالأفكار الشريرة والأعمال المدمّرة. وهكذا دواليك. فالعطاء من مواهبنا وقوانا حاجة نفسية، وعدم الاهتمام بها يؤثر على شخصياتنا، واتجاهاتنا العقلية، وصحتنا الجسدية.
فأي عمل نعمل أو أية مسؤولية نختار؟ وأي منفذ لطاقاتنا ننتهج؟
العالم يقدم منافذ عدة لقوانا. العالم فيه مشغوليات كثيرة قادرة أن تستنزف كل قوانا. عنده الحقول لقوانا العاطفية، ولكن ما أقذرها! عنده الجاذبية لقوانا الفكرية، وما أكثرها مادية! عنده الإمكانيات الكثيرة لاستخدام قوانا الجسدية، وما أبخس الثمن! عالم اليوم يدعو الشباب ليؤدي الخدمة له.
ولكن، هل هذا يفي بحاجة الشباب؟ هل يجعل الحياة لذيذة، ذات قيمة؟ هل الذي يقوم بعمل روتيني كل النهار يجد معنى في الحياة؟ هل الذي يبيع في المحل التجاري، أو يطبع في المطبعة، أو يكتب في المدرسة، هل يعيش في صميم الحياة أم على هامشها؟ هل يكتفي أن يجد منفذًا لقواه؟
فاليوم إذ تثور فينا الحميّة وتتأجّج في دواخلنا الطاقات باحثة عن منفذ، هل نوجهها إلى العالم؟ فالوظائف في العالم منافذ للقوى الشبابية ولكنها لا يمكن أن تفي بكل المطلوب. هناك حاجة روحية ملحّة يجب ألاّ نوجهها إلى المنافذ البشرية. فمن المنطق أن نقول إن الله الذي خلق فينا هذه الرغبة في إسداء شيء – في إطلاق قوانا – قد أوجد شيئًا واحدًا فقط يستطيع أن يكفيها وهو الاشتراك مع الرب في خلاص النفوس. المنافذ التي يقدمها العالم مفيدة أحيانًا ولكنها لا تكفي، لأنه لا يمكننا أن نكتفي في تقديم شيء للعالم ما لم نخدم العالم على مستوى سام، وهو المستوى الإلهي في خلاص النفوس.
عمل أيدينا لا يثبت. البنايات التي نبنيها ستتصدّع وتنهدم. نغم ترنيمنا يخور. التحفة التي نرسمها تفنى ويذهب بهاؤها. الكتب التي نؤلفها تصفرّ وتُنسى. الفضة والذهب اللذان نتعب في جمعهما يصدآن. وهذا الجسم الذي نغذّيه ونحبّه سينزل إلى القبر. ولكن عندما نتعامل في نور الأبدية ننتظر دوام الأمور. وهكذا توجد مسؤولية فضلى ومنفذ ثابت لحاجتنا: النفوس التي نربحها ستحيا إلى الأبد، وفي الدهور التي تأتي ستكون شهادة لما عملناه لملكوت الله.
فمن الجهل أن نقدم زهرة الشباب وربيع القوة للعالم، ونقدم الهشيم للرب. فالمنفذ الأعظم الذي نستطيع أن نسوق فيه قوانا هو خدمة ربح الآخرين للمسيح. المسؤولية العظمى التي تتخطّى الزمن هي أن تشترك في ربح نفس خالدة لملكوت الله. هذا هو الطريق إلى الاكتفاء.
لكل واحد خدمته
هناك أشخاص يظنون أن الخدمات الصغيرة ليست ذات قيمة تذكر، ولذا فهي ليست جديرة أن تنال قسطًا من اهتمامهم بها، ولسان حال هؤلاء يقول إن أولئك الذين تطوّعوا للخدمات الكبيرة وهم يقومون بها خير قيام، يستطيعون أن يضيفوا لها هذه الخدمة البسيطة! فلماذا ننشغل بها؟
شاب من هذا الطراز هو شاب يقف أمام يسوع وجهًا لوجه ليقول له، كأنما يلقّنه درسًا: يا سيد صاحب الوزنات الخمس هذا، ألم يكن باستطاعته أن يضيف وزنة أيضًا إلى وزناته فيبقى صاحب الوزنة متحررًا من نير الوزنة، فلا يوجد بطالاً، ولا يُطرح في الظلمة الخارجية. كأني بهذا الشاب يرى نفسه فاهمًا – أحكم من السيد – فيصير له مشيرًا، أما بطرس فيقول: "ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها." (1بطرس 10:4) وبولس يكتب إلى تيموثاوس محذّرًا: "لا تهمل الموهبة التي فيك." (1تيموثاوس 14:4) فما من شيء يحزن القلب ويدمع العين أكثر من كنيسة تخلو من الشباب الذي يأخذ مكانه في العمل. فمن لنا اليوم بشباب يشمّر عن ساعد الجدّ ويحني كتفه للغير، مغذّيًا الموهبة التي فيه؟
فمن منا لا يحب أن يكون تلك الكأس التي شرفها الرب يسوع في ليلة العشاء الأخير، ذلك العشاء الذي طالما انتظره وقال عنه: شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح؟ من منا لا يحب أن يكون تلك الكأس التي وضعها الرب على شفتيه وشرب منها، ومن ثم أعطاها للتلاميذ ليشرب منها كل واحد بدوره؟ وذلك المغسل الذي صبّ فيه السيد ماء وغسل أرجل التلاميذ معلّمًا إياهم درسًا جليلاً، ذلك المغسل استخدمه السيد أيضًا في نفس العشية. لكن الكأس لا تستطيع أن تأخذ مكان المغسل لأنها صغيرة الحجم جدًا لعملٍ كهذا. والمغسل لا يليق به أن يُستخدم مكان الكأس لأنه كبير جدًا على عمل كهذا. فكانت الكأس للشرب والمغسل للغسيل "كما قسم الله لكل واحد." (رومية 3:12) لذلك نقرأ كلمات الرسول بولس: "كل الجسد مركبًا معًا، ومقترنًا بمؤازرة كل مفصل، حسب عمل، على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد." (أفسس 16:4)
وهكذا فإننا نرى خطة الله أن المعلّم ففي التعليم، والواعظ ففي الوعظ، والمدبّر فباجتهاد. فنحن الكثيرون جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضنا لبعض كل واحد للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. "ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها." (1بطرس 10:4)
كيف نخدم؟
كثيرون يخدمون الرب ويقومون بالعمل الذي دعاهم الرب إليه كأنهم يقومون بوظيفة، أو خدمة أُسندت إليهم دون رغبتهم فيها. ففي زياراتهم مثلا يمرّون على الناس مرور الكرام دون اهتمام في القلب. وفي وعظهم يقفون على المنبر يعظون دون محبة عميقة للنفوس. لذلك يقول الله: "قوّموا الأيادي المسترخية والركب المخلّعة." وويل للمستريحين في الكنيسة المطمئنين على فراشهم. و"ملعون من يعمل عمل الرب برخاء." فاليد المرتخية لا تمسك صيدًا.
أيها الشاب، إذا كانت مسؤوليتك أن تفتح باب الكنيسة، فافتحه في الوقت المعيّن وبالطريقة الصواب. إذا كانت مسؤوليتك أن تعلّم في مدرسة الأحد، فحضّر الدرس واستعدّ قبل الوقت. إذا كانت مسؤوليتك أن تعظ، فاستعدّ بالطريقة الصحيحة وعظ بالطريقة الصواب. الله اليوم يطأطئ سماواته وينظر إلى شرقنا العربي ويقول لملائكته: أترون ذلك الشاب الراكع قرب فراشه، غدًا سيعظ في الكنيسة، ها هو يستعد، إني لأباركه بركة.
ويقول: هل ترون ذلك الشاب الجالس وراء مكتبه؟ إنه معلم في مدرسة الأحد وها هو يحضّر دروسه، تستطيعون أن تعتمدوا عليه.
"كسهام بيد جبار، هكذا أبناء الشبيبة. طوبى للذي ملأ جعبته منهم. لا يخزون بل يكلمون الأعداء في الباب." (مزمور 4:127-5)