لا تحسد غيرك على ما لهُ من مال أو جاهٍ أو ثروة أو زوجة وتشتهي امتلاكه.
عندما تتحرَّك الشهوة في داخلك لامتلاك ما للغير، فإنْ راعيتَها سيتَّسع فيها خيالك وتستبيح المحرّمات دون أن تدري أنك خرجت عن حدود اللياقة. إذ حين تسيطر الشهوة على صاحبها يختلّ توازنه فتُفقِده القدرة على التمييز في إدراك خطورة ما يسعى إليه.
قال الرب يسوع في عظته على الجبل: "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه." (متى 28:5) فخطورة النظرة الشهوانية تكمن في أنها تمهِّد للسقوط إن لم يُغلق عليها قبل أن تعشّش ويصعب اقتلاعها.
شبَّه أحدهم الشهوة بالطير الذي يمرّ من فوق رأسك ولا دخل لك به، لكن إن سمحت له أن يعشش في رأسك وقعت في الفخ!
قد يضعف الجائع أمام شهوة الطعام، والعدو ينتهز الفرصة لاقتناص فريسته فيما يلمسه فينا من ضعف، وقد يكون الجوع للمال أو للجاه أو للجنس، فيحاول عدوّ النفوس أن يقتنص فريسته من باب الضعف الذي يلمسه فينا!
نطقَ أيّوب الصدّيق بكلماتٍ تنمّ عن عفّة النفس وطهارة السيرة تستوقف القارئ، وهو من عانى من آلام وشدائد صارت مثالاً لاحتمال المشقّات والصعاب. ولم تشغله معاناته تلك عن الحفاظ على طهارة المسلك، فقال في مطلع الأصحاح الحادي والثلاثين من سفره: "عهدًا قطعتُ لعينيَّ، فكيف أتطلّع في عذراء؟" كيف أسمح لنفسي بأن أشتهي أنثى تمرّ أمامي فتسقطني في الشهوة وتلوّث مشاعري؟
أليس هذا ما حصل مع يوسف الصدّيق أيضًا! كان مشهدُ الشهوة ماثلًا أمام يوسف يوميًّا ويتحدّاه، لكنه لم يسمح للتجربة أن تغزو قلبه، وبقيَ عفيف النفس مرفوعَ الرأس شريفًا لم ينحنِ أمامها، فدفع ضريبة العفّة سنواتٍ في السجن.
صعد داود الملك إلى سطح قصره يومًا ليستجمّ بمناظر المدينة في ساعة خلوة، وكان جيشه حينها يحارب في عمّون شرقي النهر، وسعاة البريد بينه وبين قائد جيشه على تواصُل مستمرّ لمتابعة أخبار الحرب. وفيما هو على السطح يجول بعينيه هنا وهناك، وقع نظره على امرأة تستحمّ داخل فناء بيتها القريب من القصر، وسور البيت كافٍ لسترها عن عيون المارَّة، لكنْ ليس عن عيني من يقف فوق سطح القصر العالي. فاشتعلت الشهوة في داخله، وسعى لإشباع رغبته، فأرسل واستدعاها إلى قصره، فحضرت واختلى بها، وفقد توازنه. ومضت أيام وتبعتها أسابيع، أدركت بعدها المرأة أنها حامل في غياب زوجها! فأرسلت وأخبرت داود. عندها استفاق الملك من غفلته وأدرك خطورة المأزق الذي وصل إليه. وكان زوج المرأة مع الجيش يحارب بعيدًا عن بيته منذ شهور، وأدرك داود أن معالم الفضيحة تلوح في الأفق فماذا يفعل؟!
وقاده خياله للتخطيط مع قائد جيشه للقضاء على زوجها أثناء القتال في الحرب، وطلب منه أن يزجّ به في أخطر المواقع فيُقتَل قبل أن يُفتضح الأمر. وحصل ما حصل، ومات أوريا زوج المرأة، وأُبلِغ داود بموته، فضمَّها إليه كإحدى زوجاته، وفي ظنّهِ أن الأمر بقي في الكتمان! ولكن عين الله لا تنام!
فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود وعرض عليه قضية كأنه يستطلع رأيه فيها فقال: رجلان في المدينة أحدهما غني له غنم وبقر لا حصر لها، وله جار فقير لا يملك سوى نعجة واحدة تأكل من لقمته، وتشرب من كأسه، وتنام في حضنه كواحدة من عياله. فلما جاء ضيف على الغني، عزّ عليه أن يذبح له من أغنامه، فتناول نعجة جاره سرًّا وذبحها لضيفه!
هنا ثار غضب الملك داود وقال: "من فعل هذا يجب أن يُقتَل ويردّ النعجة أربعة أضعاف!"
وتريَّث ناثان النبي لبعض الوقت ليكمل داود ما عنده من ردة فعل، ثم نظر إليه وقال بحزم: "أنت هو الرجل!" (انظر سفر صموئيل الثاني 12)
فصُعِق داود حين أدرك أن ما عمله في الخفاء مكشوف أمام عيني "كاشف الأسرار" الذي عيناه لا تغمضُ ولا تنام.
والأغرب أن داود كان مؤمنًا بالله، وهو ملك البلاد وقدوة لشعبه! لكن هذا هو الإنسان: يسهل عليه أن يضعف أمام شهوة يرعاها فتُسْقطه أرضًا وتلصق به العار.
ما حصل مع داود يؤكد لنا أن الخطية مدانة في نظر الله ولو صدرت من ملك أو نبي أو وزير، فعدالة الله لا تتستّر على الإثم. وقدسيَّة الله تأبى أن تمر الخطية بلا عقاب.
وثمّة واقعة أخرى سجّلها الوحي بطلها ملكة وثنية تدعى إيزابل اشتهى زوجها أخآب ملك إسرائيل أن يُوسّعَ بستان قصره، فطلب من جاره نابوت اليزرعيلي أن يبيعه كرمه الملاصق لبستان القصر. فرفض الرجل لأنّه ورث البستان من آبائه ويعزّ عليه بيعه. فاغتمّ الملك وعاد إلى بيته مُكمدّ الوجه. فلاحظت إيزابل الكمد في وجه زوجها وعلمت بما جرى. وللفور خطّطت مع رجالٍ أشرارٍ من حاشيتها ليشهدوا بأن نابوت جدَّف على الله وشتم الملك، وحاكت له قضيَّة حوكم فيها وأدين بشهود زورٍ. ونفّذت فيه حكم الموت، ثم دعت زوجها وقالت له: "قم رثْ كرم نابوت اليزرعيلي، لأن نابوت لم يعدْ حيًّا!"
فقام أخآب فرحًا، ونزل إلى كرم نابوت ليرثه! ولم يدرك أن فوق العالي عاليًا كما يقول الكتاب المقدس: "إن رأيتَ ظلم الفقير، ونزع الحق والعدل في البلاد، فلا ترتع من الأمر، لأن فوق العالي عاليًا يلاحظ، والأعلى فوقهما." (جامعة 8:5)
وبينما كان الملك أخآب في حقل نابوت يخطّط لضمّه إلى بستانه، أرسل الرب إليه إيليا النبي وهو بعد في البستان. فقال إيليا لأخآب: "هل قتلت وورثت؟" ثمَّ أردف قائلًا: "في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضًا، وستأكل الكلاب إيزابل زوجتك." (انظر سفر ملوك الأول 21)
ولم يمضِ وقتٌ طويل حتّى دخل أخآب، كما سبق وأشرنا، في معركة حربية مع الآراميين، في راموت جلعاد وقُتِل ونزف دمه على أرضية المركبة التي أقلّته إلى بيته. وبعدما غسلوا المركبة من الدم الذي سال فيها، تجمَّعت الكلاب على رائحةِ الدم ولحستْه. فتمّت فيه نبوءة إيليا.
وبعد ممات أخآب، ثار الشعب على إيزابل وهوجم القصر، فقُتِلت، ورمى الجنود جثتها من على شرفة القصر في الطابق العلوي وانشغلوا لبعض الوقت، ولما فطنوا رجعوا ليدفنوها فوجدوا أن الكلاب قد أكلت لحمها ولحست دمها ولم يبقَ منها سوى الجمجمة والرجلين فدفنوها عظامًا. (انظر سفر الملوك الثاني 35:9)
فكانت تلك ثمار شهوة مرت في ذهن أخآب وشاركته زوجته إيزابل في تحقيق حلمه، فنالا دينونة ما فعلوا.
لا نبالغ إنْ قلنا إن الشهوة التي تنهي عنها الوصية العاشرة هي علّة هذا التكالب المحموم، وهذا التناطح الدموي الذي نشهده بين الشعوب منذ بدء التاريخ في شهوة الحكم، وشهوة التسلط، وشهوة التعالي، وشهوة الامتلاك، وشهوة الجنس. فكلها تنبع من محيط الشهوة التي لا تقف عند حدّ.
وهي العلة وراء الخلافات العائلية، ودواعي التمزّق بين أفراد الأسرة الواحدة: حسدٌ فطمعٌ فجفاءٌ فخصومة فعداء.
فالشهوة تشكل النافذة التي يطلّ منها ثعبان الخطية ليعيث في النفس فسادًا ويدفعها إلى مهاوي الهلاك.
وقعت بيدي نبذة صغيرة قبل سنوات تركتْ أثرها في ذاكرتي لما تحمله من عبرة. النبذة لرسَّام ماهر صَوّر فيها رجلاً مشدودَ العضلات، يتحفَّزُ للانطلاق بقوة للأمام، فتعيقه ثلاثة حبال مجدولة تشدّه للوراء وتمنعه من الحركة. وكُتِب على الحبل الأول "شهوة الجسد"، وعلى الحبل الثاني "شهوة العيون"، وعلى الحبل الثالث "تعظّم المعيشة" (أي الكبرياء).
هذا المشهد المعبِّر مأخوذ من رسالة يوحنا الأولى حيث يقول الرسول بوحي الروح القدس: "لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم... لأن كل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظّم المعيشة." (1يوحنا 15:2-16)
فأي خطية تراود أحدًا لا بدّ أن تقع في واحدة من هذه: إما شهوة الجسد، أو شهوة العيون، أو شهوة التعالي (1يوحنا 17:2)! إنها الشهوة!