[وتكلمت مريم وهارون على موسى.] (عدد 1:12)
ما أكثر ما يشكو الناس من كلام الناس. إن مجتمعنا موبوء بهذا المرض الوبيل. والغريب في الأمر أن الناس باختلاف حياتهم يقعون في هذه التجربة، يقع فيها المؤمن وغير المؤمن.
كان موسى يتمتّع بمكانة رفيعة عند الله، وكان له مقامه بين الناس لكنه لم يسلم من كلام الناس. لم يتكلم عليه إنسان غريب بل تكلمت عليه مريم أخته وهارون أخوه. نعم، ما أصدق قول المسيح: [وأعداء الإنسان أهل بيته.] وفي العبارة التي أمامنا ذُكرت مريم أولاً لأنها امتلأت بالغيرة والحسد حتى وقع عليها أشدّ القصاص. وعن كلام الناس أريد أن نتأمل في أمرين:
1- عندما يتكلم الناس
وهنا نرى الإنسان يتكلم. ولماذا يتكلم الإنسان؟ يقول العدد: [لأنه قد اتخذ امرأة كوشية.] والمرأة الكوشية كانت حبشية الجنس من بلاد الحبشة، من سكان أفريقيا. كان السبب الظاهري للكلام التعصب الجنسي والتفرقة العنصرية. أما السبب الحقيقي الخفي هو الكبرياء والغيرة والحسد. بدأت مريم تتكلم مع هارون على موسى سرًّا ثم تطوّر الأمر قليلاً وأصبح جهرًا. وبدأ الكلام ينتقل من خيمة إلى أخرى حتى عرف بالأمر الشعب كله. وعندما يتكلم الناس يبدأ الكلام من:
أ) الأخت والأخ: تتكلم الأخت، ويتكلم الأخ، وهما جميعًا من أب واحد. وُلدا من بطن واحدة ورضعا جميعًا من ثديٍ واحد، وأكلا من طعام واحد، وربما من طبق واحد. شربا من كأس واحدة، وناما جميعًا على فراش واحد.
مريم تتكلم! هل تذكرون مريم هذه وهي تقف من بعيد لتلاحظ أخاها موسى وهو طفل صغير بعد وضعه في سفط البردي في مياه النيل؟
هارون يتكلم! هو الأخ الأكبر. الأخ الذي كانت له مكانة الأب. الأخ الذي يُنتظر منه العطف. ولكن الغيرة لا تعرف الأُخوّة. وما لي أسترسل في الحديث عن مريم وهارون كما لو كان ما فعلا هو الأول والأخير من نوعه، وعندنا يسوع، الذي عندما بدأ خدمته غار منه إخوته فقالوا إنه مجنون. وفي مثل الابن الضال نجد الأخ الأكبر يتكلم على أخيه الأصغر ويقول: [ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمّن.] وجاء آخر يشكو للمسيح مما فعله به أخوه فقال: [قل لأخي أن يقاسمني الميراث.]
هل تتكلم على أخيك؟
هل تتكلمين على أختك؟
إن مريم وهارون يعيشان في الكنيسة حتى اليوم. وعندما يتكلم الناس يأتي الكلام أيضًا من:
ب) الأخ المؤمن: هارون الكاهن، لا بل هارون رئيس الكهنة، الذي كان الكهنة على رتبته. هارون الذي ساعد في خلاص الشعب. هارون الذي رفع يد موسى في طلب المعونة مع حور في حرب عماليق. هارون الذي كان يحمل دم الذبيحة إلى قدس الأقداس.
ومن أيضًا؟ مريم الأخت المؤمنة التي هي أول نبية في تاريخ الكتاب المقدس. اسمعوا ما قالت: [هل كلّم الرب موسى وحده؟ ألم يكلمنا نحن أيضًا؟ هل تسقط النبية في هذه الخطية؟ مريم صاحبة الصوت الجميل، مرنمة إسرائيل الحلوة... مريم قائدة فرقة المرتلين عند الخروج من مصر.
لو عمل موسى شرًا، أو لو وقع في خطية ما، لكان هذا يستحق الانتقاد. لكنهم ينتقدون تقوى الأتقياء! ولقد أحسّ المسيح بهذه الحقيقة فقال لنا: [ويل لكم إن قال فيكم جميع الناس حسنًا.]
واليوم يتكلمون على بعضهم البعض في الكنيسة. يتكلمون على العامل، والمتقدم، ويتكلمون على الخادم. ألا يكفي موسى كلام الأشرار؟! لقد نجح الشيطان في التغرير بمريم وهارون للوقوع في هذه التجربة.
تكلم التلاميذ على يعقوب ويوحنا عندما طلبا من يسوع أن يجلس واحد عن يمينه والآخر عن يساره. آه من كلام الناس! آه من كلام الأخ المؤمن في الكنيسة أو في الاجتماع! وعندما يتكلم الناس يأتي الكلام أيضًا من:
ج) الأخ المحسَن إليه
هل تتكلم يا هارون على موسى؟ ألا تذكر؟ صنع هارون العجل وغضب الرب، ولكن موسى لم يترك الشعب وحده، وبالحري لم يترك هارون يتحمّل قصاص ما فعل، بل تشفع لهم وتضرع أمام الرب من أجلهم. ولا بد أن موسى أحسن إلى مريم أخته حتى وإن كانت تستحق البرص واللعنة، لكنه كان يتضرع من أجلها للرب.
وغالبًا لاحظ موسى مريم وهارون وهما يتكلمان عليه، ولم يعتب ولم يلعن، ولم يصلِّ ضدهم للرب. وهذه طبيعة الإنسان يتم فيها القول: "أكل خبزي ورفع عليّ عقبه.] كم أحسن المسيح إلى يهوذا، وكم أحبه؟ وكم أظهر له إحسانه في صور مختلفة، ولكنه يبيعه نظير ثلاثين من الفضة؟
وكم أحسن المسيح للآخرين أثناء خدمته، وأخيرًا نعتوه ببعلزبول رئيس الشياطين؟
وكم أحسن إبراهيم إلى لوط، ولكن المخاصمة تحدث بين رعاة مواشيهما؟
هذا هو كلام الناس، فدعنا من كلامهم وتعال لنرى كلام الله. وهذا يقودنا إلى الأمر الثاني في موضوعنا وهو:
2- عندما يتكلم الله
سمع موسى بكلام مريم وهارون عليه، ولكنه لم يشكُ لأحد. لم يلعن الناس والزمان، لا في الوجه ولا في الخفاء. كان ممكنًا أن يعاتب ولكنه لم يفعل ذلك. كان بإمكانه أن يدعو شيوخ بني إسرائيل، لكنه فضل السكوت. صمت موسى ولم يفعل شيئًا لأنه أراد أن يسمع كلام الله بدلاً من أن يسمع كلام الناس. عندما تعطي الفرصة لله وتفسح المجال له فإنه يعمل! [لا تنتقموا لأنفسكم... لي النقمة، أنا أجازي يقول الرب؟]
ومجدًا لإلهنا لأنه يسمع دائمًا. يسمع الرديء والطيّب. يرى الظاهر ويعرف المكتوم. [كل شيء مكشوف وعريان لديه.] وهو لا يحابي الوجوه، لكنه يتكلم!
يتكلم أولاً بارتفاع السحابة
يقول في عدد 10: [فلما ارتفعت السحابة عن الخيمة إذ بمريم برصاء كالثلج.] وكم هو مخيف أن ترتفع السحابة؟ إن ارتفاع السحابة هو ارتفاع القيادة. كان الرب يقود شعبه في النهار بعمود السحاب، وفي الليل بعمود النار. ولكن عندما تكلمت مريم ارتفعت القيادة عنهم، تركهم الرب!
كان في السحابة معنى من معاني الستر، ولكن لما ارتفعت أصبحت الفضيحة واضحة أمام الجميع. بارتفاع السحابة ترتفع صداقة الله للشعب. يصبح الرب عدوًّا لا صديقًا. بارتفاع السحابة يتوقف الشعب عن المسير والتقدم إلى الأمام. بارتفاع السحابة ترتفع البهجة والسرور عن الشعب.
وهذا ما يفعله كلامنا على بعضنا البعض: عندما توجد هذه الخطية في وسط الكنيسة يضربها الله بالبرص... وتفتح الأرض فاها لتبتلع أولاد قورح... فلو وُجدت مثل هذه الخطية لأصبح الإنسان تائهًا وهاربًا في الأرض...
أحذّركم أيها الأحباء من الكلام على الآخرين حتى لا ترتفع السحابة، لأنه إن ارتفعت فمعنى ذلك هو الضرب بالبرص. ويتكلم الرب أيضًا بـ
الاعتزال خارج المحلة
اعتزلت مريم في خيمة خارج المحلة. ولكن ما هذه الخيمة؟ هي الخيمة التي اشتاق بطرس إليها فقال: [فلنصنع ثلاث مظال: لك واحدة، ولموسى واحدة ولإيليّا واحدة.] هل هذه هي المظلة التي أتت عليهم وظللتهم؟ كلا، بل هي خيمة الأرض، خيمة النجاسة، التي تصرخ: أبرص، أبرص! خيمة الوجه المشوّه بالقباحة بدل الجمال... خيمة العزلة والبعد عن أولاد الله. هذه هي الخيمة التي عاشت فيها مريم خارج المحلة. والخيمة التي عاشت فيها هي خيمة عذاب الضمير كلما تذكرت السبب.
وهل عفا الرب عن هارون؟ ربما كانت الضربة أشدّ على مريم لأنها كانت هي البادئة. هل عفا الرب عن هارون لأجل الخدمة التي كان يقوم بها؟! مرات كثيرة يصبر علينا الرب لأجل خاطر الكنيسة. ولكن انظروا هارون وهو يذهب كل يوم ليرى مريم... ألا يتألّم؟ ألا يتعذّب؟ ألا يثور عليه ضميره ليؤنبه ويوبّخه؟ يكفي عذاب الضمير!
هذا هو الحال أيها الأحباء مع كل من يتكلم على أخيه... ليتنا نتكلّم حسنًا عن الله وعن الناس فيتكلّم الرب عنا حسنًا. تحكّموا، لأن الكلمات متى خرجت لا يمكن استردادها – لننظر إلى نفوسنا. فمن يسكن في بيت من الزجاج لا يرشق الناس بالحجارة!
لنسمع قول الكتاب المقدس: [أخرج الخشبة التي في عينيك حينئذ تبصر جيدًا الخشبة التي في عين أخيك.] [لا تدينوا لكي لا تُدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم ويُزاد.]
أما أولئك الذين يخافون من كلام الناس فأقول لهم: لنعلم أن الخوف من الله ينزع الخوف من الناس، والخوف من الناس ينزع الخوف من الله.