عندما كبر إسحاق ابن إبراهيم زوّجه والده برفقه ابنة أخيه، وبمرور الوقت كانت رفقه عاقرًا، وصلى إسحاق لأجل رفقة، واستجاب الرب وحبلت، وتبين فيما بعد أن في بطنها توأمان. وتزاحم الولدان في بطنها فشعرت بالخوف وسألت الرب في صلاتها فأجابها: [في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يُستعبد لصغير.]
ولما كملت أيامها لتلد خرج الأول أحمر، كله كفروة شعر، فدعوا اسمه عيسو، ثم خرج الآخر ويده قابضة بعقب أخيه فدعي اسمه يعقوب، يبدو أن الاسم الأخير هنا كان يخفي بعلم الله ما ستنبئ عنه أيام قادمة كما سنرى.
وكبر الولدان وكان لكل واحد اهتماماته الخاصة به، فعيسو كان يحب الصيد، فيخرج باكرًا إلى البراري ويغيب عن البيت لساعات طوال يتابع صيده ويأكل مما يجنيه، ويعود عند المساء منهك القوى لا وقت له يصرفه مع أهل البيت، فهو يعيش في عالمه الخاص به في استقلالية تامة عن أهل بيته. أما يعقوب فكان يلازم البيت، يساعد أمه فيما تحتاجه ويتعاطف معها، ويهتم بقطعان غنم أبيه، وبما يطرأ من احتياجات البيت، فتعلّق قلب الأم بولدها يعقوب أكثر من أخيه.
وفي يوم ما جاء عيسو من جولة في البراري جائعًا منهك القوى لم يصطد شيئًا يومها. فوجد أخاه وقد طبخ طبيخ عدس فاحت رائحته الشهية بالقرب منه، فطلب من أخيه أن يسمح له بشيء منه، فرد عليه يعقوب: [بعني اليوم بكوريتك!] فرد عيسو على الفور: [هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى الْمَوْتِ، فَلِمَاذَا لِي بَكُورِيَّةٌ؟] فهي لك خذها... وحلف له وتمت الصفقة بين الأخوين بهذه السهولة وأعطاه يعقوب صحن عدس فأكل ومضى.
واستمر عيسو يلهو في عالمه بعيدًا عن عشرة الأهل، مع أنه كان يعيش في بيت يرأسه والد نبي لديه مخزون من الاختبارات الروحية، لكنه لم يعطِ وزنًا لامتياز كهذا، وسهل عليه أن يقول [لا] لبركة روحية تمنحها البكورية وهو يدرك أهميتها ولكنه استهان بها بفعل إرادته، فقال الوحي فيه محذِّرًا شعب الكنيسة اليوم:
[ملاحظين (كونوا حذرين) لئلّا يخيب أحدٌ من نعمة الله. لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع انزعاجًا، فيتنجّس به كثيرون. لئلا يكون أحد زانيًا أو مستبيحًا كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريّته. فإنكم تعلمون أنه أيضًا بعد ذلك، لما أراد أن يرث البركة رُفضَ، إذ لم يجد للتوبة مكانًا، مع أنه طلبها بدموع.] (عبرانيين 15:12-17)
ومر على صفقة البيع تلك فترة من الزمن، وحان الوقت لكي يبارك إسحاق بكره قبل أن يموت، ولم يكن يعلم بصفقة البيع التي جرت بين الأخوين.
[وحدث لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه البكر وقال له: يا ابني... قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي. فالآن خذ عدّتك: جعبتك وقوسك، واخرج إلى البرية وتصيّدْ لي صيدًا، واصنع لي أطعمة كما أحب، وأْتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت.]
لم يقل عيسو لأبيه: يا أبي، لقد بعت بكوريتي لأخي يعقوب، أنا منحتها له برغبة مني. لكنه قَبِل ما طلبه منه أبوه وانطلق عاجلًا إلى البرية.
سمعت رفقة ما قاله إسحاق لعيسو، فدعت يعقوب وتشاورت معه بمكر ليأخذ مكان عيسو، وصنعت طعامًا بمهارة حسب مرغوب زوجها، وجهزت ابنها الذي أحبته، وزودته بلباس عيسو، وأدخلته إلى أبيه الملقى على فراشه فاقد البصر حاملًا الطعام الشهي باعتبار أنه عيسو، فأكل الشيخ بما قُدِّم له، وطلب ابنه، وقرّبه إليه، وشمّ رائحة ثيابه، وباركه وقال فيما قاله:
[رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب. فليعطك الله من ندى السماء ومن دسم الأرض. وكثرة حنطة وخمر. ليُستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل. كن سيدًا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين.]
وعاد عيسو من صيده، [فصنع هو أيضًا أطعمة ودخل بها إلى أبيه] ليأكل ويباركه، [فقال له إسحاق أبوه: من أنت؟ فقال: أنا ابنك بكرك عيسو. فارتعد إسحاق ارتعادًا عظيمًا جدًا وقال: فمن هو الذي اصطاد صيدًا وأتى به إليّ فأكلت من الكل قبل أن تجيء، وباركته؟ نعم، ويكون مباركًا.] عندها أدرك عيسو أنه وقع في الفخ فصرخ صرخة عظيمة مُرّة وقال لأبيه: [باركني أنا أيضًا يا أبي.] فقال إسحاق أبوه: [قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك.]
[فقال عيسو لأبيه: ألك بركة واحدة فقط يا أبي؟ باركني أنا أيضًا يا أبي... فأجاب إسحاق أبوه وقال لعيسو: إني قد جعلته سيدًا لك... وعضدته بحنطة وخمر. فماذا أصنع إليك يا ابني؟ ... وَرَفَعَ عِيسُو صَوْتَهُ وَبَكَى. فأجاب إسحاق أبوه وقال له: هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش، ولأخيك تُسْتعبد، ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك.]
ولما أحس عيسو بالخسارة التي أصابته انسلخ عن بيت أبيه وانفرد عنهم بعيدًا في برية وادي موسى جنوبًا (منطقة البتراء اليوم) وصار له شعب وتكاثروا وتسمّوا فيما بعد بالآدوميين (هم بُناة البتراء). وكان لهم تاريخهم الطويل كشعب آخر لا صلة لهم بشعب أبيه. ومع غزوات الحروب في المنطقة من كرّ وفرّ، وغالب ومغلوب، اندثروا بين الشعوب، وذابوا بين الغزاة، ولم يعد لهم ذكر يحَدّد الهوية سوى آثارهم الخربة اليوم، التي صارت عبرة لمن يعيش في ظلال نعمة يستهين بها أو يلهو عنها لا يدرك قيمتها.
المشهد الذي وقع فيه عيسو يتكرر اليوم في حياة الكثيرين من مسيحيين على اختلاف طوائفهم، وكأن التاريخ يعيد نفسه فيهم. إذ كثيرون منا يسقطون بسهولة تحت أقدام شهوة ما، كشهوة مال، أو جاه، أو جنس، أو عاطفة خادعة تغريهم وترمي بهم خارج الأسوار في صحارٍ قاحلة لا ماء فيها ولا اخضرار. فهؤلاء لا يربطهم بالمسيحية سوى "هوية الأحوال المدنية" التي يحملون. فلا علاقة شخصية لهم بالمسيح سوى الانتماء الشكلي، إذ لا يمارسون الصلاة، ولا رغبة لديهم في قراءة الإنجيل، ومعلوماتهم عن مصيرهم الأبدي مبهمة تكتنفها الضبابية، ولا يحضرون الكنيسة في أيام الآحاد وغيرها، ولا حتى في أيام الأعياد، سوى في مناسبات حفل زواج أو عزاء مجاملة للغير. وبعضهم لو حضر يفضّل البقاء خارج جدران الكنيسة يصرف وقتًا في هرج ومرج مع غيره إلى أن ينتهي الاحتفال، والدافع خفي مفاده أن الانتماء إلى الكنيسة لا يعنيهم. أليس هذا تنكّر خفيّ للإيمان بالمسيح، وعلامة انسلاخ مبطَّن عن كنيسة الله؟ ويُحسبُ إلحادًا تحت عباءة مسيحية؟!
وهل يختلف هذا عمّا كان عليه عيسو في انتمائه الشكلي للعائلة؟ فما حدث لعيسو يتكرر في حياة كثيرين اليوم في طوائفنا، وهي ظاهرة متفشية تزداد اتساعًا، في وقت نرى فيه الكثيرين من خارج الحظيرة المسيحية ينضمون إليها من أطراف الدنيا بابتهاج، وأهل البيت خاسرون، يستهينون بنعمة يعيشون في ظلالها ويبيعونها بثمنٍ بخس، بصحن عدس على مثال عيسو! ويخسرون الأبدية... وهي خسارة لا تعوّض. لأنه [ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟] (متى 26:16)
فلو شعر أحد قرائي اليوم أن الأمر أصابه، وأن ما قيل هنا ينطبق عليه ورغب في النجاة، فما عليه إلا أن يحني رأسه بل وقلبه وهو في مكانه ويقول:
[يا رب، حررني مما أنا فيه. اغفر ذنوبي، وأعطني أن أصير من شعبك بحق، فأتمتع بخلاصك ولا يصيبني ما أصاب عيسو من ضياع. آمين.]