كيف نفهم الأزمنة؟ وكيف نميّز قصد الله؟ وماذا تعلمنا الأيام؟ "إحصاء أيامنا هكذا علّمنا فنؤتى قلب حكمة." (مزمور 12:90) و "من هو حكيم... فليُرِ أعماله بالتصرّف الحسن في وداعة الحكمة." فالمعرفة الحكيمة هي المملوءة وداعة وتواضعًا (يعقوب 13:3-16).
كما أن الحكمة السماوية عديمة الريب ثابتة في باطنها كظاهرها، وتظهر ثمر البر والإيمان والهدوء "نازلة من فوق" و"الرب بالحكمة أسس الأرض" وحتى نختبر حكمة الله في أيامنا علينا أن نتفهم كل من:
أولاً- قلب الحكمة:
في بداية رحلة البرية سبّح الشعب "تسبيحة موسى"، وهي شكر عبور بحر سوف (خروج 15)، وقرب نهاية الرحلة قدم موسى نصائحه في شكل تسبيحة (تثنية 32). إن حياة البرية تؤدي إلى العودة إلى التراب في مذلة لأن حياة الإنسان "كهزيع من الليل" (مزمور 4:90) أي ثلاث ساعات. إذًا ألف سنة في عيني الله كساعات قليلة " أيام سنينا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة..." إن الرقمين 70 و80 لهما مفاهيم روحية عند القديس أغسطينوس، فالرقم 70 ينسب إلى رقم 7 أي السبت وهو خاص بالعهد القديم، أما مع القوة (قوة قيامة المسيح) فيتمتّع الإنسان برقم ثمانين الخاص باليوم الأول من الأسبوع. لقد شعر موسى أن حياته انتهت بعد الثمانين (خروج 22:5)، ولم يعلم أن هناك أربعين سنة ليخدم الرب. إنها عطية من الله، فماذا طلب موسى من الله؟ "علمنا فنؤتى قلب حكمة... فنبتهج ونفرح كل أيامنا." (مزمور 12:90 و14)
ثانيًا- سلوك الحكمة:
"من هو حكيم وعالم بينكم، فليرِ أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة." (يعقوب 13:3) فهل نطلب من الله الحكمة؟ اطلب الحكمة فيعطيك أيضًا "غنى وكرامة." (1ملوك 7:3-13) إن الحكمة تحفظك من الخطية، واتِّخاذ القرارات الخاطئة، والتطرف في العلاقات، ومحبة المال دون الله. و"الذباب الميت ينتن طيب العطار." إذا لم يغطَّ الطيب، يسقط فيه الذباب ويلوّثه. من دروس الحياة أيضًا أن "الحكيم يتسوّر مدينة الجبابرة" (أمثال 22:21)، أي يدور حولها ويدرسها ويتعرّف على سر قوتها (مشاكل الحياة) ويسقطها مهما كانت أسباب المشكلة التي يواجهها أو نقاط الضعف الشخصية، فالحكمة مفتاح النجاح. "الغبي يصدق كل كلمة" (أمثال 15:14)، لكن الحكمة تميز مواضع الخداع وتمتحن كل روح (1صموئيل 1:3) و"رابح النفوس حكيم."
ثالثًا- امتحان الحكمة:
تظهر حكمة الإنسان عند مواجهة الصعاب والظروف الصعبة، وهكذا لما صار المسيح مثلنا ظهرت حكمته في البرية عندما قدم عدو الخير حجرًا عوض الخبز ليأكله الإنسان: "إن كنت ابن الله، فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا." (لوقا 3:4) ربما قصد الشيطان أن يتحقق من لاهوت المسيح، هل يمكن أن يغير طبيعة المادة؟ كان جواب المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله." أما التجربة الثانية فهي استخدام الطريق السهل للمُلك والخلاص بتجنب الصليب. هذه طريقة ماكرة يقع فيها الكثيرون وهي السجود لإبليس نفسه. إن عدو الخير يرينا جميع ممالك المسكونة أولاً وكأنه رئيس هذا العالم. أجابه المسيح: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد." (لوقا 8:4) الأولى لقمة العيش والثانية تحطيم الهدف المقدس، والثالثة تشويه كلمات الوحي وتحويل العبادة إلى الشكليات. اطرح نفسك من ههنا حتى تثبت لاهوتك، ولأنه الابن الأزلي (مزمور 11:91؛ عبرانيين 5:1-7؛ ومرقس 7:2) أجاب يسوع إبليس: "لا تجرّب الرب إلهك." (لوقا 12:4) و "الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام." (جامعة 14:2)
رابعًا- يوبيل الحكمة:
قد تعجب من بعض شرائع الله وحكمته. فمثلاً، شريعة السنة السابعة (لاويين 1:25-7) وفيها تُحفظ سبوت السنوات، أي السنة السبتية أو السنة السابعة التي لا يجوز فيها زرع الأرض أو حصدها؛ إلا ما يسمح بتقديم الجزية، أو الضريبة، وتقدمات حزمة الترديد، ورغيفي التقدمة، وخبز الوجوه. القصد أن ترتاح الأرض ويشترك الغني والفقير والغريب في خيرات الأرض دون خجل "وكان كل شيء بينهم مشتركًا." (أعمال 32:4) إنها عطلة الأرض والشريعة الثانية "سبعة سبوت سنين. سَبْعَ سِنِينَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. فَتَكُونُ لَكَ أَيَّامُ السَّبْعَةِ السُّبُوتِ السَّنَوِيَّةِ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً... في يوم الكفارة... وتقدسون السنة الخمسين..." (لاويين 8:25-22) إن السنة الخمسين هي سنة اليوبيل وتعني بالكلمة "قرن الكبش" لأنه يبوّق فيها بعد انتهاء مراسيم الكفارة. إنه عيد العتق للعبيد واسترداد الأراضي والرهون. هذه سنة مقبولة للرب لتعزية النائحين، وفي العهد الجديد لم يكمل المسيح قراءة ما جاء في إشعياء "وبيوم انتقام لإلهنا" لأن الدينونة ستتم عند مجيء المسيح الثاني "اليوبيل الثاني"، فيه يعزّى النائحين "فداء أجسادنا" و "أزمنة رد كل شيء."
خامسًا- صليب الحكمة:
إن المناداة بمخلص مصلوب لا توافق العقول المفكرة مع أنها تتفق مع الغرائز الأولية والطبيعة البشرية "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع." و "كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله." (1كورنثوس 18:1) ولله طرقه وأساليبه. ألم يجهّل الله حكمة هذا العالم؟ لأنه إذ كان في حكمة الله (الظاهرة في الأعمال التي أراد الله أن يعلن ذاته فيها) كما في رومية 19:1-32. فشلوا في استخدام القوى العقلية، فالله استحسن بالجهالة الظاهرة في الكرازة بالصليب أن يخلص الجميع. هل تعلم أن الله يتكلم بلغة البشر ومصطلحاتهم (أعمال 22:17-32)، لذلك دُعي المسيح "كلمة الله؟" إن كلمة "في البدء" الواردة في سفر التكوين 1:1، يقصد بها بدء الخليقة. أما في يوحنا 1:1 يقصد بها تاريخًا سابقًا لبدء خليقته بمقياس الزمن. كما أنه في اليونانية القديمة لا تأتي "الكلمة" "لوجوس" بل بكلمة تفيد معنى "في الأصل" Ar-khay أي الكينونة والوجود الدائم. أما العبارة "مع الله" فتعني لسان صاحبها لإعلان المعرفة الصحيحة عن طريق الحكمة والعقل والقلب.
سادسًا- إله الحكمة:
يظن البعض أن مذهب الصوفية - أهل العشق والتأمّل الباطني - والمسيحية التي تقدّم تعليم المسيح في الموعظة على الجبل، وحياته، ومعجزاته، وصلبه، وقيامته، ومجيئه الثاني للدينونة، وفداءه للشعب القديم طريقٌ واحد إلى الله. نعم! قد يتفقان في الفكر اللاهوتي وقد يختلفان في الفكر الفلسفي. يقول الصوفيون لابسو الصوف العاشقون إنهم يتّحدون بالله ويفنون فيه، وسمّوه "الـ هو هو" أي الموجود الغني عن التعريف، أو بالعبرية "أهيه الذي أهيه"، وفي الإنجيل "الله الظاهر في الجسد." (يوحنا 14:1) كما قال أحدهم (عن المسيح): ليس هو الله، ولكنه أيضًا ليس شيئًا غير الله." لذلك بعض فلاسفة الإسلام يرون في اسم الله "الجامع" أنه يشير إلى وحدانية الله، وحدة جامعة أي شاملة لكل صفاته وكمالاته. هذا يختلف عن الآلهة الوثنية القديمة وتعدد الآلهة. هناك أيضًا من يطعنون في قصة سقوط الإنسان ويدعون أن الحية شخصية رمزية وتجاهلوا طبيعة الشر في البشر. إنهم يسعون إلى توحيد الديانات والتأمل في الكائنات الفضائية وإنكار الوحي، والخلاص في الصليب، والذبيحة الكفارية. "وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في عالم مظلم." (2بطرس 19:1) و "لو كان بالناموس (بالصوفية) برّ فالمسيح مات بلا سبب." (غلاطية 21:2)
هنا تقابلنا مشكلة "البر والتبرير." إن "البر العام" يتمثّل مثلاً في إبراهيم الذي آمن بالله "فحُسب له برًّا... بالإيمان إبراهيم لما دُعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي." (رومية 9:3 وعبرانيين 8:11) هذا هو البر العام، أي تلبية دعوة الله، وهي أول خطوة في طريق البر، ولا تفيد مطلقًا أعمال الإيمان أو إعلان الإيمان نفسه إذ أنه كان بحاجة إلى إعلان الذبيحة والخلاص الممثل في تقدمة إسحاق (أي عمل الصليب) "أباركك مباركة" (تكوين 17:22)، كما حدث مع كرنيليوس (أعمال 1:10-8). لكن البر الخاص فهو بناء على عمل المسيح، أي قبول عمل الفداء ونعمة الله. هناك أيضًا "البر العملي" وهو ثمر الإيمان بالمسيح والخلاص "الإيمان بدون أعمال ميت." (يعقوب 20:2) هذا الإيمان ينتج ثمارًا وأعمالًا صالحة بعد الإيمان بالمسيح "لأنكم بالنعمة مخلصون."
يا روح ربي، كلمن قلبًا تمزق بالسهام
وامنح بجودك واهبًا نعماء حبٍّ وسلام
يا روح ربي علّمن صوتك حصن مسمعي
درّب خطاي دائمًا في نهج سير سيدي
يا روح ربي الْمِسَنّ وهنًا وضعف حيلتي
إياك أرجو باكيًا إبراء سقم يبتلي
يا روح ربي املأنّ فيض غمار وثمار
فأخدم طول المدى حتى يضيء ذا النهار
يا روح ربي اكشفن كيما أرى صلب يسوع
يريح نفسًا تائهة مكفكفًا كل الدموع