Voice of Preaching the Gospel

vopg

الدكتور صموئيل عبد الشهيدصديقي عصام،
ها أنا أركن إلى حجرة عيادتي في مصحِّ الأمراض الصدرية المُعدية بعد يوم حافل بالمهام الطبية ومعاينة المرضى؛ وقد انقضت عليَّ أكثر من ساعتين وأنا أحاول مراجعة التقارير اليومية وسواها من الشؤون المتوجِّبة على كل طبيب. غير أنني في هذه الليلة تساورني مشاعر عميقة من الكآبة والأسى لأن تنِّين الموت المرعب قد فغر شدقيه الرهيبين واختطف منِّي، من غير رحمة، إحدى مريضاتي التي كان لها أبلغ الأثر في حياتي. وأمامي الآن رسالة منها أودعَتْها مع إحدى الممرضات لتسلِّمَني إيَّاها بعد وفاتها.

رسالة سكبت فيها خلجات قلبها، وأودُّ أن أقتبس لك منها عبارة واحدة مُشعَّة بدفق من أحاسيس نفسها الغامرة، "فاصغ إلى نداء المتألمين، إلى صرخات قلوبهم وتنهيدات صدورهم، وابذل لهم كل عطف وحنان حتى ولو كنت عاجزًا عن مداواتهم."
إنني فيما أطالع كلمات هذه العبارة، أشعر بجلال قلبها المفعم بالمحبة والطيبة، فيعتريني شيء من الخشوع وكأنني أقف في وسط محراب مقدَّس أنصت إلى أصوات خافتة تنبض بالرأفة والرقة. بل أراني في لحظات الصمت هذه، أجترُّ ذكرياتي مع هذه المريضة النبيلة، واستعرض بخيالي ما خلَّفته في نفسي وفي نفوس الذين عرفوها من موظَّفي المصحِّ ومرضاه من تأثير روحيٍّ وعاطفيِّ لا يتلاشيان.
فعلى الرغم من شحوبها، كانت قسمات محيَّاها تتألَّق بجمال يتعذَّر إدراك سرِّه. كانت ابتسامتها الجذابة تتموَّج بالغبطة، ويرتعش صوتها بغنَّة خفيفة محببة تجتذب القلوب إليها. وما لبث أن انتابني شعور من الأُلفة نحوها فعرفتها كما هي، على حقيقتها: شفَّافة الروح، رهيفة الحساسية، آملة باسمة، متأمِّلة مطمئنَّة، رغم إدراكها أن داءها العضال لا برء منه. ومع ذلك، فإنَّ الابتسامة المرحة لم تفارق شفتيها.
ولكن في هذا المساء تحررت من آلامها وانتقلت من هذا العالم الفاني. وها أنا فيما أخط إليك هذه الرسالة تتراءى لمخيَّلتي بعض صور هذه الذكريات نابضة بالحياة تنطق بقصتها المدهشة التي طواها القبر.
عندما شاهدتها لأوَّل مرة في حجرة عيادتي في المصحِّ بدت لي كأيِّة فتاة مريضة أخرى لا يميِّزها عنهنَّ شيء سوى تلك الابتسامة المطمئنَّة التي تشرق بها أساريرها، وتداعب محيَّاها الشَّاحب، فلم أعرها أيَّ اهتمام خاص؛ فهي مريضة كبقية المريضات ومن واجبي أن أُقدِّم لها كل ما في وسعي من عناية ومهارة طبية، تمامًا كما أفعل مع أي مريض أو مريضة أخرى لجأت إلى هذا المصحِّ.
ولكن لم يمض وقت طويل حتَّى اعتدت أن أراها تتجوَّل في ردهات المصحِّ وأروقته، أو واقفة على إحدى الشرفات المطلَّة على الحديقة، تائهة البصر في أفق غير منظور من العوالم اللامتناهية وكأنها تبحث عن شيء مجهول في طيِّ الزمن، او متهالكة على مقعد غارقة في مطالعة كتاب. وفي أحيان أخرى كنت ألمحها من بعيد منحنية على وردة حمراء متفتِّحة الأكمام تلمس أوراقها بحنان وفي عينيها بريق سرور مريح.
ولست أدري ما دفعني ذات مرَّة حين التقيتها وحيدة تتنزَّه في حديقة المصحِّ تتمتع بالسكون المخيِّم حولها وتحدِّق بين الفينة والفينة إلى امتداد الفضاء البعيد وكأنَّها تحاول أن تسبر أغواره الشاسعة بما فيه من أسرار جمال الطبيعة الساحرة. وما لبثتْ أن استكانت إلى مقعد خشبيٍّ تظلِّله أفياء شجرة صنوبر سامقة. وعندما شاهدتني أقترب منها بهدوء رفَّت على شفتيها ابتسامة رقيقة حالمة وهزَّت رأسها بالتحية من غير أن تنطق بكلمة وكأنها تخشى أن تعكر صفاء الغروب البهيج. وبعد فترة صمت قصيرة قلت:
الحياة جميلة، أليس كذلك؟
رنت إلى الأُفق من جديد ثم أجابت وفي نظراتها شرود متأمِّل:
أجل، ولكن نفس الإنسان الطاهرة أجمل منها إذ ليس في وسع الحياة الجميلة أن تجتثَّ أدران النفس وأحزانها إن كان القلب ما برح مظلمًا كئيبًا.
وسكتت قليلًا وكأـنَّها تتمعَّن في عبارتها ثم قالت ببطء:
أنا أحب الحياة وأستمتع بها لأن قلبي يمور بمحبة مصدرها الذي يفوق كل وصف مما يجعلني أعانق الإنسانية بكاملها فلا يخامرني أيُّ كره أو ضغينة لأحد. وكذلك أحب الجمال والطبيعة لأن كياني وخوالجي تنسجم مع هذه المحبة العجيبة.
فسألتها بحَيرة:
ماذا تقصدين؟ وعن أيِّ حبٍّ تتحدَّثين؟
حدَّقت إليَّ بنظرة بارقة وقالت:
محبة من فداني ومات من أجلي لكي يعتقَني من مصيري الرهيب فأنعم بالحياة الأبدية الخالية من كل مرض.
تفوَّهت بهذه الكلمات الوامضة بالأمل والثقة فيما كنت أتفرَّس فيها مشدوهًا، وتساءلت في نفسي: "كيف يمكن لهذه الفتاة المصدورة التي تقف على شفير الموت ولا يفصلها عن القبر غير خيط واهٍ أن تبتسم للكون فتستضيء الدنيا حولها"؟ وبعد لحظة من التردُّد قلت لها:
ما الذي يدعوكِ لمثل هذا اليقين؟
شيء واحد أنَّ مسيحي حيٌّ.
أطرقت برأسي من غير أن أنطق بكلمة.
ولكن حديثها أثار في نفسي طائفة من التساؤلات عن الحياة بعد الموت التي لم يكن لديَّ أجوبةٌ مقنعةٌ عنها. فقد كان همِّي الأول أن أُنقذَ مرضاي من براثن هذا الدَّاء الخبيث، أما ما يحدث بعد ذلك من بقاء أو فناء فليس من شأني. هو من شأن الله.
وسرعان ما شرعتُ بعد هذا اللقاء الأول أجد متعة عميقة في جلساتنا على الشرفة المسربلة بشعاعات الشفق الحمراء أو في لقاءاتنا وهي تتجول بين أشجار حديقة المصحِّ. ومع كلِّ لقاء كنت أزداد بها افتتانًا وإعجابًا، وتغلغلت روحها المرحة المتوثِّبة في نفسي تغلغلًا مثيرًا وتساءلت: "هل أكون بذلك قد أحببتها"؟ وإذ طغى عليَّ هذا الشعور المبهم، وجدت نفسي منهمكًا في مطالعة كل ما تنشره المجلَّات الطبيَّة من أبحاث حديثة عن مرض السِّلِّ لعلِّي أعثر على اكتشاف جديد يدرأ الخاتمة الأليمة عن حياتها بل حياة الكثيرين من المصابين بهذا الداء العياء. ولحدٍّ ما، طفقت أحيا في مدار وجودها تحدوني رغبة هائلة بل رجاء متشوِّق أن تحدث معجزة فتنجوَ من قبضة الموت.
أمَّا هي، فكانت حين تراني تتألَّق بسمة مشرقة على ثغرها النَّدي فأحس بنشوة تستولي عليَّ مشوبة بالقلق لأنني كنت أدرك أن داءها حتى ذلك الحين قد استعصى على الطب. حاولت أن أقتحمَ مغاور هذا الداء بجنون وقوة، وأصارعه صراع الجبابرة لأنقذها من جشع الموت، ولكنَّ جميع مساعيَّ باءت بالفشل، ووقفت عاجزًا أمام القضاء المحتوم. وهكذا وجدت نفسي حائرًا مشلولًا وأنا أرى الظلمات تطبق عليها من كل جانب. لقد دنا الأجل وأزف موعد الفراق إلَّا أنَّ تلك الابتسامة الواثقة لم تفارق شفتيها.
وفي غروب النهار الأخير من حياتها استدعتني إلى جوارها وقالت لي بصوت خائر مرتجف:
دكتور اقترب مني قليلًا. إنَّك تتعب نفسك كثيرًا لأجلي...
فجأة باغتتها نوبة سعال عنيفة وأخذ صدرها يعلو ويهبط باضطراب. كانت تعاني آلامًا هائلة نخرت رئتيها، وتقطَّعت لهثاتها العميقة، ثم ما لبثت أن استكانت قليلًا وأرادت أن تتابع حديثها. حاولت أن أسكتها ولكنها أشارت إليَّ بيدها واستطردت بضعف:
أنا أعلم أنني عما قليل سأُفارق هذه الحياة ولكن الموت لا يخيفني...
انتابتني رعدة صامتة وضغطت على يدها النحيلة وأنا أقول لها بلهفة:
لا لن تموتي يا ماجدة، لن تموتي لأنني.
وتراقصت الألفاظ الحائرة على لساني وتعلَّقت عيناها بشفتي وهمست:
لأنك ماذا؟
فقلت بصوت ينزُّ باللهفة:
لأني أحبك، أجل أحبك يا ماجدة، أحبك بكل ذرة في كياني، ستعيشين يا ماجدة، ستبرئين.
فلاحت على شفتيها المرتعشتين شبه ابتسامة وحدَّقت إلى أعماق عينيَّ طويلًا، ثم قالت بصوت خافت:
دكتور أنا أعلم أنَّك قد أحببتني وأنا أيضًا أحببتك، ولكن ليت قلبك يفيض أيضًا بمحبة من أحبَّك وبذل نفسه فداء عنك، وعندئذ، نعم عندئذ، تغمر محبتك الآخرين لأن مصدرها نبع لا ينضب أبدًا، فإن مثل هذا الفيض الموَّار يجعلك تحب الناس جميعًا فتعمل آنئذ بلا كللٍ لتخفِّف من غلواء شجن المرضى والمتألِّمين فيكون عملك فعل محبة وليس فعل واجب فقط.
وما لبثت الكلمات أن ماتت على شفتيها، وتوقَّف قلبها عن الخفقان. وهكذا هيمن الموت بظلِّه الكئيب على الجثمان الساجي أمامي، وانسابت آخر شعاعات الغروب على محيَّاها الذي علته صفرة المنيَّة للحظات عابرة ثم سجا الليل.
وفي هذا اليوم ووري جدث ماجدة باحتفال مهيب في حديقة المصحِّ تحت أشجار الصنوبر، ووقفتُ إلى جوار ضريحها بعيون متحجِّرة تجمَّدت فيها العبرات.
كنت آخر من غادر القبر بعد أن نثرتُ عليه باقة الورود الحمراء التي كانت تحبها وعدت إلى عيادتي مثقلًا بتراث المحبة التي رأيتها متجسِّدة في ماجدة.
أجل، لقد انتقلت ماجدة إلى فردوسها الأبدي لتكون مع من أحبها حتى الموت بعد أن تركت في قلبي شعلة من تلك المحبة الفائقة التي ستظلُّ نبراسًا مضيئًا في حياتي، وأضحى فاديَّ هو قائدي في معترك الحياة الصاخبة.
المخلص،
فؤاد

المجموعة: تموز (يوليو) 2018

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

404 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
11577111