الأصحاح الثاني من سفر يشوع يسلّط الضوء على مشهد رائع، فيه سمة رمزية تفسرت فيما بعد في زمن العهد الجديد (الإنجيل). مشهد يستحقّ الوقوف عنده والتأمل فيه.
يدور المشهد حول امرأة تُدعى راحاب من سكان أريحا، مدينة حدودية قديمة، تقع على بعد 11 كلم غرب نهر الأردن.
وكان لاحقًا قد مرّ بها المسيح في آخر جولاته بالبلاد قبل صلبه بأيام، وشفى فيها الأعمى ابن طيما، والتقى بزكّا العشّار وزاره في بيته وحصل خلاص لذلك البيت.
اسم راحاب يدلّ على أنها من أصل عربي، فالعرب كان لهم وجود ملحوظ في المنطقة منذ القديم (غلاطية 7:1؛ 25:4؛ نحميا 4:7؛ 1ملوك 15:10). وقد يكون اسمها في الأصل رِحاب، بكسر الراء وهو اسم متداول في مجتمعاتنا اليوم، ومعناه - رُحبْ - أي خير جزيل، والاسم جرى عليه بعض التحوير مع الوقت مثل غيره من أسماء من خلال الاختلاط بالشعوب.
كانت راحاب تسكن في بيت مبني على سور المدينة، وتمتلك فندقًا ملاصقًا لبيتها تستقبل فيه نزلاءه وتمارس مع من يشاء ما يروق لها من رذيلة في عيشة وثنية غير منضبطة.
سلوك راحاب بهذه الأخلاقية ألصق بها صفة غير حميدة من الخزي والعار مما جعل اسمها أينما ذكر يقترن بالقول: "راحاب الزانية". المرة الوحيدة التي لم يُذكر هذا نجده في إنجيل متى 1، فهي في حكم الإنجيل أصبحت بعد اختبار مرت به لاحقًا، مؤمنة، قديسة، إنسانة جديدة، مغفورة الخطايا. أَخَطَأَتْ؟ نعم. لكنها ندمت وتابت وغيّرت طريقها وانفتح قلبها لإله ليس كمثل آلهة الشعوب المزيّفة، فاختارت أن تحتمي تحت ظلّ جناحيه. إذ بعد أن أدركت أنه إله قدير صانع المعجزات، تمنّت في قلبها أن تصير من شعبه، وتحقق ما تمنّته فنالت رضاه، بل وشرّفها بأن أصبحت بعد عقدين من الزمن واحدة من جدّات المسيح حسب الجسد، وجدّة من جدّات داود النبي. فداود حفيد من أحفاد راحاب، ومن نسل داود حسب الجسد جاء المسيح! (متى 1) فباحتماء راحاب بالإله الحقيقي في زمن لا تحكمه شريعة مُعلنة، منحها غفرانًا لخطايا أكثر سوادًا من الفحم! والكتاب يقول: "هلمّ نتحاجج، يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج. إن كانت حمراء كالدوديّ تصير كالصوف." غفران الله لا تحدّه حدود، طالما هناك فرصة متاحة للتوبة والعودة إلى الله، على مثال عودة الابن الضال الذي صرف أمواله في عيشة مبتذلة لكنه عاد نادمًا تائبًا فاحتضنه أبوه وأكرمه!
باحتماء راحاب برب الأرباب غُفرت خطاياها ولو كانت سوداء بلون الفحم، وصارت من شعبه، مع أنها لم تكن يهودية المنشأ لأن الله للجميع، ومن يُقبِل إليه لا يردّه!
بهذا الاختبار المميّز في أوائل العهد القديم، قبل أن تُعلن الشريعة أو تُعمّم بين الناس، ظهر غنى رحمة الله غير المحدودة.
كلنا كمسيحيين ومسلمين نقرّ ونعترف أن الله غفور رحيم، ونرددها كثيرًا. لكن معظمنا أو الكثيرين منا لا نقبل، ولا نجيز، ولا نصدّق، أو لا نريد أن نصدّق أن رحمة الله ممكن أن تصل إلى أمثال راحاب الغارقة في وحل من العيب! إذ في نظرنا أننا نحن أقدس منها، وأطهر شرفًا! الله لنا وحدنا وليس لغيرنا، أما هؤلاء كرحاب وأمثالها ليس لهم سوى الجحيم، أما الجنة أو قدسية الأبدية فلأمثالنا وليست لغيرنا! كثيرون يتفكّرون بهذه الطريقة.
هذا يذكّرنا بما قاله الفريسي الذي ذهب إلى الهيكل ليصلى في لوقا 11:18 وصلى هكذا: "اللهمّ أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس... ولا مثل هذا العشار (الخاطئ الجاثي بجانبي، أنا أفضل منه. أنا أشرف وأقدس)." وعندما جاء دور العشار الخاطئ ليصلّي قرع على صدره بندامة وحزن وقال: "اللهم ارحمني، أنا الخاطئ." علّق المسيح في ختام هذا المشهد فقال: "هذا (الأخير) نزل إلى بيته مبررًا دون ذاك."
وفي مشهد آخر شبيه: امرأة أُمسكت في ذات الفعل، وجاءوا بها إلى المسيح (دون شريكها في الإثم) ليجربوه هل يدينها ويحكم عليها بالرجم، فكان ردّه المفحم: "من كان منكم بلا خطية فليَرمها أولًا بحجر." (يوحنا 7:8) في ردّه هذا لم يبرّرها، بدليل أنه بعد انسحابهم من المشهد فاشلين قال للمرأة: "أين هم الذين اشتكوا عليك؟ أما دانك أحد؟ ... اذهبي ولا تخطئي أيضًا." فتغيّرت المرأة الخاطئة وجاءت في اليوم التالي بقارورة من الطيب سكبتها على المسيح باكية نادمة كتعبير عن توبتها.
أتمنّى أنه عندما يشير أحدنا إلى راحاب في أحاديثنا أو مواعظنا المنبرية ألّا نُلحِقها بتلك الصفة الشائنة، فهي لم تعدْ كما كانت! فهي أخت لنا، ودم يسوع المعروف قبل تأسيس العالم طهّرها، وجبلها من جديد كما يصنع الفخاري بالعجينة بين يديه، هكذا صنع الرب فيها إنسانة جديدة فسبقتنا إلى الأمجاد.
وقتئذ، كان الشعب الموسوي القديم قد غادر مصر وتحرّر من عبودية فرعون. لكن كان عليهم في الليلة التي سبقت رحيلهم أن تقوم كل عائلة بذبح خروف خالٍ من العيب، ثم يضع رجل البيت الدم على عتبة البيت العليا وقائمتي الباب اليمنى واليسرى، ويغلق الباب خلفه ويدخل، ولا أحد يخرج من البيت حتى الصباح. لأن ملاكًا مهلكًا كان سيمرّ في تلك الليلة على كل أرض مصر، وكل من لا يضع علامة الدم على باب بيته يُقتل بكره. أما المحتمون داخل بيوت موسومة بعلامة الدم فينجون.
وفي الصباح الباكر بدأت مسيرتهم بعجلة مخلفين وراءهم مناحة عظيمة في كل بيت مصري لم تكن على بابه علامة الدم. وسار الشعب بقيادة موسى إلى كنعان عبر سيناء... ووصلوا خليج العقبة (عصيون جابر) ثم البتراء شمالًا، واجتازوا وادي الموجب من أرض موآب (أرنون سابقًا)، ومروا بمدينة ديبون (ذيبان حاليًا)، ثم حشبون (حسبان حاليًا) - مدن ما زالت قائمة وتحتفظ بأسمائها القديمة مع شيء من التحوير - وأخيرًا وصلوا جبل نبو إلى الغرب من مدينة مأدبا، وخيّموا هناك لبعض الوقت.
في نبو تلة عالية تشرف على أرض كنعان غربًا. ومن ذات الموقع استطاع موسى أن ينظر بعينيه أرض الموعد التي سعى للوصول إليها، لكنه حُرم من دخولها حيًا كان أو ميتًا بسبب خطأ وقع به. ثم مات موسى عن عمر يناهز 120 سنة، ولم يعلم أحد قبره لحكمة من الله. فبكى الشعب رحيل موسى، وأقاموا مناحة لثلاثين يومًا، ثم تولّى يشوع قيادة الشعب.
وبعد اكتمال مناحة موسى نزل بهم يشوع شمالًا إلى السهل المقابل لأريحا شرقي النهر، وخيّموا هناك، ثم اختار يشوع اثنين من رجاله أرسلهما إلى أريحا لاستطلاع الأرض قبل أن يدخلوها. فذهب الرجلان ونزلا في فندق راحاب، فتعرّفت راحاب عليهما وأدركت الهوية التي ينتميان إليها، ودخلت معهما في نقاش وحوار لساعات. فاستوضحت من نزيلَيها عن صحة ما لديها من أخبار معجزاتٍ مرّوا بها خلال رحلتهم من مصر، فتأثّرت بما سمعته، وأيقنت أن إله هذا الشعب هو الله الحقيقي. وبدأت تفكّر في أن تنضمّ إلى مسيرتهم وتحتمي تحت ظلّ جناحي هذا الإله القدير الذي ليس له مثيل.
في هذا الوقت، كان ملك أريحا قد وصله علم بأن رجلين غريبين نزلا في فندق راحاب، فأرسل يستوضح الخبر. أجابت راحاب بأن الخبر صحيح لكن الرجلين غادرا الفندق: الحقوا بهما في مخاوض النهر. (كذبت! فهي لم تتثقّف بعد بسلوكيات الإيمان). وبعد أن غادر رجال الملك الفندق، أصعدت ضيفيها إلى السطح ووارتهما بعيدان كتان لها منضدة هناك، ثم صعدت إليهما وصرفت معهما بعض الوقت لإحكام خطة النجاة، وقررت بالتوافق مع ضيفيها أن تُنزلهما بحبل من طاقة في بيتها المبني على السور ليغادرا المكان ويختفيا عن الأنظار في البرية قبل أن يُكتشف الأمر.
وقبل أن يغادرا قالا لها: اربطي هذا الحبل القرمزي في الطاقة التي ننزل منها ليكون علامة أمن وحماية لك ولكل من في بيتك عندما يقتحم رجالنا المدينة، واعلمي أن كل من في داخل البيت يكون في أمان، والحبل القرمزي يكون علامة عهد بيننا لنجاتكم. ومن خرج خارجًا دمه يكون على رأسه، ونحن أبرياء.
ثم أنزلتهما من الطاقة بالحبل فغابا عن المشهد، وبقيت راحاب تنتظر ما سيكون. وعاد الرجلان إلى يشوع وأخبراه بما تجمّع لديهما من استطلاع، وأخبراه عن راحاب والحبل القرمزي.
هي فرصة للنجاة قد تمرّ مرة ولا تعود!
والسؤال هنا: ماذا لو أن راحاب تناست الموضوع بعد رحيل الرجلين، وأهملت ما توافقت به معهما، ورمت بالحبل القرمزي واحتقرته؟ الجواب: تكون قد خسرت أبديتها دون شك، وعادت إلى عيشتها التي اعتادت عليها، وماتت بعد سنوات، واختفى ذكرها!
لكنها بقيت على العهد، واستمرت إلى أن جاء الفرج، واندمجت مع شعب الرب، وخَلُد ذكرها كما اليوم على ألسنة الشعوب والوعاظ وهم يدعون الكثيرين والكثيرات للتمثل بها في ما اختارته بالانضمام إلى صفوف المفديين.
يرتسم أمامنا حبلٌ قرمزي بلون دم يسوع ينادي الجميع: "تعالوا احتموا به لتنالوا الغفران." وبعد أيام سنحتفل بذكرى الميلاد، فبميلاد المسيح فادي البشرية تكون قد بدأت خيوط الحبل القرمزي تتشكَّل إلى أن اكتمل نسيجها في الصليب كحبل نجاة لكل الشعوب، إذ قال قبل أن يُسلِّم الروح والدم ينزف من يديه: قد أُكمِل!
صديقي القارئ، صليب المسيح يشكّل لك ولي ولكل الناس حبل نجاة لا سواه، من احتمى تحت ظلاله نال الحياة. وبدونه لا حياة. تعال إليه ولن تخسر!