قصة حب دامت 33 عامًا
ترجمتها الأخت أدما حبيبي (الحلقة الثانية)
هل لاحظتم أنَّ ما من شيء يحصل أو يجري كما يريد الإنسان تمامًا؟ هكذا تابعت نورا قصتها قائلة. فالله في بعض الأحيان لديه فكرٌ آخر يختلف عن أفكارنا نحن.
ألا يقول الكتاب: "لا تفتخر بالغد لأنك لا تعلم ماذا يلده يوم؟" (أمثال 1:27) علينا أن نتذكَّر إذن بأنه لا يمكننا أن نتكهَّن أو نتنبّأ بما تجيزُنا به الحياة. وفي نفس الوقت ينبغي ألَّا نقلقَ أو نهتم لأن لله وحده مقادير الأمور وهو المسيطر في كل الأحوال والظروف. (القس ريك وَرِن)
إنَّ أولَ حاجز اعترض حياتنا الزوجية هو عدم مقدرتنا على الإنجاب. ها قد مضى سنتان على زواجنا ولم يتم الحمل. وبدأ الناس من حولنا يتساءلون، وراحوا يقدّمون لنا النصيحة تلوَ الأخرى. كنا نحن الاثنان نحب الأطفال جدًا، ونحلم بهم، حتى إننا قمنا باختيار اسمين هما سارة وصموئيل لأولاد المستقبل، وقرأنا كتبًا عديدة عن كيفية تنشئة الأطفال وتربيتهم وقيادتهم في طريق الرب. لكن كان للرب خطةٌ أخرى كما بدا لنا. وكلَّما مرّت السنوات كنت أتساءل: لماذا يا رب؟ لماذا تنجبُ الفتياتُ المراهقات أطفالًا ومن ثمَّ يرمينهم على قارعة الطريق أو في المزابل؟ لماذا يُنجب كلُّ مَن حولنا أطفالًا، أما نحن فمحرومان من هذه النعمة؟ وفي كل مرة كان الرب يذكّرني ويقول لي: "توكّل على الرب من كل قلبك وعلى فهمك لا تعتمد..." (أمثال 5:3) عندها أدركت أنَّ للرب في حياتنا قصدًا عظيمًا وأنه يحضِّرنا لشيءٍ أكبر. وعليه نَما إيمانُنا معًا وازدادَ حبُّنا لبعضنا البعض. وبِتنا ننتظرُ سويًا حدوث المعجزة من السماء.
ومرَّتِ الأيامُ والشهور وكذا السنون لم نترك فيها علاجًا طبّيًا إلَّا وجرَّبناه، لكن دون جدوى. وبعدَ خمسَ عشرة سنة تغيَّر مجرى تفكيري واتَّجه نحو التبنّي. وقلت: لما لا؟ وحين فاتحتُ كميل بالموضوع لم يكن متحمِّسًا للفكرة خاصةً أنَّ المجتمع الشرقي بشكلٍ عام لا يتقبَّل فكرة التبنّي. لكن ما السبب؟ لماذا يسمحُ الله بوجود أولادٍ أيتام ولا يسمح لأولاده أن يعتنوا بهم؟ لماذا يسمحُ الله لزوجين مثلِنا، بأن يعانوا بسببِ عدم الإنجاب، ولا يستخدمُهم ليكونوا بركةً لهؤلاء الأطفال؟ لماذا؟ كان كميل متردّدًا بادئَ ذي بدء فيما لو كان في استطاعته أن يحبَّ طفلًا لم ينجبْه هو أو أن يكونَ أبًا صالحًا له!
وفي صباح أحد أيام الصيف تلقَّينا مكالمة من كمال أخي كميل في الأردن اقترح فيها علينا، خلال حديثه، أن نتبنَّى طفلًا. عندها تشجَّعنا كلينا وقمنا بالاتصال بأحد المياتم في لبنان لأنَّ بابَ التبنّي من رومانيا كان مغلقًا آنذاك. وحين استفسرْنا عن المتطلَّبات التي ينبغي أن نقوم بها أولًا، قيل لنا بأنَّ قائمةَ التبنّي طويلةٌ والاستعداد لها يأخذ وقتًا. وفعلًا، لم تكن المقابلات والإجراءاتُ سهلةً البتة. فقد قُمنا بإملاء استماراتٍ وقدّمنا وثائق تثبتُ بأنني معلّمة في المدرسة وكذلك فعلَ كميل من مكان عمله. كما اطّلعوا على أوراق الضرائب، وحساباتنا في المصرف، وقُمنا بمنح بصماتنا كما أدّينا فحوصًا طبية بالإضافة إلى مقطعٍ نكتبُه نعبّر فيه عن قِيَمنا وحياتنا معًا كزوجين. وبينما نحن منشغلان بكلِّ هذه الأوراق المطلوبة، ولم يمضِ بعدُ شهران على بدء المعاملات، إذا بنا نتلقى مكالمة هاتفية من الميتم في لبنان تخبرُنا فيها المسؤولة بأنَّ هناك طفلةً للتبنّي وأنَّنا قد أضحينا في المركز الأول في القائمة. ويعود السبب لأنَّ العائلة الأولى المدرجة في القائمة كانت تنتظر صبيًّا وليس بنتًا. وحين سألتنا المسؤولة في الميتم إذا كنا نودّ أن نتبنى طفلةً سمراء اللون وُلدت باكرًا أي في الشهر السابع، لكنَّها بكامل صحتها، نظرنا أنا وكميل إلى بعضنا وصِحنا سوية: نعم. أجل، لقد استجابَ الرب صلاتنا، وفرحنا بعطية الرب لنا.
رأينا صورَها من خلال الكمبيوتر، فازددنا تعلُّقًا بها. أما أمي فراحت تقبّل شاشة الكمبيوتر وتبكي فرحًا. لقد استعدَّت بالإيمان منذ أشهر عديدة لمجيء هذه الطفلة المعجزة إلينا. فاشترتْ لها السرير والملابس. لكَم تاقت أن تصبح جدّة. كان الانتظارُ صعبًا للغاية حتى تكتمل مرحلة التحضير ونحوزَ على الموافقة للتبنّي من دائرة الهجرة. في كلّ يوم كنت أتبادلُ الرسائل الإلكترونية مع العائلة التي تبرّعت بالعناية بابنتنا "سارة" ريثما يحينُ وقت سفرنا إلى لبنان. نعم، وقعنا أنا وكميل بحبّ سارة دون أن نراها شخصيًا. وقام كميل بتجهيز غرفتها. أما أخي "ليفيو" فلقد أقام حفلًا كبيرًا بالمناسبة السعيدة الآتية، وحمل الناس إلينا هدايا كثيرة. وسجّلتُ أنا وكميل فيديو نرحب به بـ "سارتنا" قبل سفرنا.
وأخيرًا، جاء الوقتُ المعين، فحملْنا حقائبنا الممتلئة وحقيبة سارة الخاصة بها، وبعد سفرة طويلة مرهِقة وشاقة، وصلنا إلى لبنان في وقت متأخر من الليل. وهناك في الشقة، قيل لنا بأنَّ سارة نائمة. لكن ما أن دخلنا الغرفة لنلقي النظرة الأولى عليها حتى فتحت سارة عينيها الواسعتين الجميلتين، فوضعتْها الأم المربية بين ذراعيّ، فحضنتُها وقبّلتها. عندها، لم أستطع حبسَ دموع الفرح الغامر الذي حلَّ بداخلي. لا ولن أقدر أن أصف شعوري أنا وكميل في تلك اللحظة. شكرنا الله على عطيته الثمينة، وشعرنا بنفس الوقت بعمقِ المسؤولية الملقاة على عاتقنا. وقلت في نفسي: يا رب لو استطعتُ أن أرى لمحةً من وجه هذه الطفلة قبلًا، لكنتُ انتظرتُ بصبرٍ جميل. لكن الرب أجابني وقال: كلّا، لأنكِ لو رأيتِ لمحةً منها فلن تعودي تحتاجين إلى الإيمان. قلت: أجل يا رب، لأنَّ "الإيمان هو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى." (عبرانيين 1:11)
بقينا في لبنان مدةَ شهرين إلى أن انتهت معاملة التبنّي. كان وقتًا جميلًا بالفعل تعلّمنا خلاله الكثير عن ابنتنا الغالية. بعدها ذهبنا إلى عمان، الأردن حيث قابل أهلُ كميل وكلُ أقربائه طفلتنا، ورحبوا بها وقام بتكريسها للرب أولًا القس فواز عميش في الأردن وثانيًا راعي كنيستنا القس ميشيل بطارسة، بعد عودتنا إلى كاليفورنيا، ومرةً ثالثة في الكنيسة الرومانية. أجل، لقد جلبتْ سارة إلينا فرحًا عارمًا وفاضت قلوبُنا بالحمد للرب على نعمته.
لكن ما أن انقضتْ سنتان ونصف على عمر سارة، حتى اجتزت بامتحانٍ آخَر لإيماني. إذ اتصلت بي والدتي في الساعة الرابعة فجرًا وكان اليوم أحدًا، وراحت تقول لي بصوت منخفض: لومي، إنني لا أقدر على التنفس. تعالي! وللحال اتصلت بالإسعاف (911) وامتطيت السيارة وقدتها بسرعة البرق إلى بيت أهلي القريب من منزلنا. وحين وصلتُ وجدت سيارة الطوارئ هناك، وكانت والدتي مطروحةً على الأرض دون حراك في مدخل البيت. لكن للأسف حين وصل المسعفون لم يستطيعوا إنقاذها، لأنَّ قلبها قد توقف عن النبض بفعلِ ذبحةٍ قلبية حادة. صعقني الخبر وكذا المنظر، وكانت تلك صدمةً كبيرة بالنسبة لي. أمي حبيبة قلبي التي تمتاز بإيمانٍ قوي، وحياة صلاة دائمة، وصحة جيدة ذهبتْ هكذا في لحظات عن عمرٍ يناهز السابعة والستين. كيف ليَ الآن أن أهتم بابنتي وأرعاها بنفسي دون وجود أمي إلى جانبي؟ كيف؟ وبينما أفتش مرةً بين كتبها وجدت كتابًا بعنوان: "الله لا يمكن أن يضيّع أي أذىً سدىً" للكاتب جيم ريفز. كانت قد اشترته ولم تقرأه بعد. ومن خلال قراءتي لهذا الكتاب فيما بعد عزاني الله أبي السماوي تعزيةً كبيرة. فالله لن يمنعنا من اجتياز الوديان السحيقة، لأنه سرعان ما يرفعنا منها لنعود ونحلّقَ فوق الجبال الشاهقة. فالوديان ليست دائمةً، ولا يمكننا التنبؤ بها. لكن هناك وعلى أشجارها نجد الثمر الوفير. ومن خلال الصعوبات نستطيع أن ننمو. فالصعوبة أو التجربة إمَّا أن تكون فرصة، أو مشكلة. بالنسبة لنا أنا وكميل، كانت فرصةً نمَوْنا فيها معًا وصرنا نعتمد واحدنا على الآخر في تربية طفلتنا.
في كل ليلة كانت سارة تصلي وتطلب من الله أن يكون لديها أخت أو أخ. وكذلك صلّيتُ أنا أيضًا. أجل، صلّيت من أجل صبي، من أجل صموئيل. ولشدة دهشتي وبينما كنت أتفحّص رسائلي الإلكترونية في أحد أيام شهر كانون الثاني، إذا بي أرى رسالةً من لبنان تحمل عنوان: "أخبار سارة." فناديت للحال كميل وسارة لكي يأتيا إلى المكتب وقمنا بقراءة ما جاء فيها: "الأعزاء نورا وكميل، أودّ إخباركم بأنه في 25 كانون الأول الساعة 11:30 ليلًا وصل إلينا طفل بصحة جيدة وهو الآن معنا. تستطيعان مشاهدة الصور المرفقة. فماذا تظنان؟ هل أنتما على استعداد أن تتبنّياه؟ وهل تستطيعان الانتهاء من الأوراق بسرعة. نحن بانتظار ردّكما."
من شدة الفرح، أجبنا الرسالة في الحال وقلنا: نعم. لقد استجاب لنا الرب مرةً أخرى. ومن جديد قمنا بإجراء الأوراق اللازمة على جناح السرعة. أسمينا ابنَنا صموئيل ومعناه: الرب سمع. وبعد شهرين بالضبط تمَّ هذا الأمر، ويا لها من رحلة كانت ممتزجة بمشاعر الفرح والحزن في آن واحد...
(لومي خليل- المعروفة ب نورا)
القصة لم تنتهِ هنا، فللحديث بقية، ومزيد عن المشاعر المختلطة لرحلة هذين الزوجين كميل ونورا. فتابعوا معنا نهايتها في المقالة المقبلة.