الاعتزال: هل هو أمر إلهي أم اختيار شخصي؟
في أمسية يوم أحد قبل عيد الميلاد بقليل، كانت الأسرة كلها مجتمعة حول نار المدفأة تستعرض ما حدث خلال اليوم. كان اليوم مليئًا بالحركة: حفلة عيد الميلاد، وترانيم عيد الميلاد، وإعداد هدايا عيد الميلاد للأهل والأصدقاء. وقادنا هذا كله إلى ذكريات عيد الميلاد.
دقّ جرس الباب ودخل أخي الأكبر، وبعد التحيات المعتادة بدأ النقاش حول موضوع اعتزال المؤمنين، وهل هذا الاعتزال أمر إلهي يتحتّم على المؤمن طاعته أم اختيار شخصي يحكم فيه كل مؤمن بحسب استحسانه.
أُثيرت أسئلة كثيرة خلال النقاش. هل علينا كمؤمنين مولودين من الله أن نعتزل عن العالم؟ وهل اعتزالنا يمكن أن يفسَّر على أنه تحيُّز؟ وإذا اعتزلنا فكيف نوصل رسالة المسيح إلى العالم حولنا؟ هل الكتاب المقدس يعلّم بوضوح بضرورة اعتزال المؤمنين المولودين من الله عن العالم أو أن الاعتزال الذي ننادي به هو تفسير خاطئ لبعض نصوص كلمة الله؟ أين يعلّم الكتاب المقدس بضرورة اعتزال المؤمنين؟ كيف يمكننا كمؤمنين أن نعتزل عن العالم ونستمر في الحياة فيه، ونقوم بأعمالنا اليومية، ونتعامل مع غير المؤمنين؟
كل هذه الأسئلة أُثيرت خلال مناقشتنا لموضوع اعتزال المؤمنين. ولكي نفهم حقيقة الاعتزال باعتباره تعليمًا كتابيًا علينا أن نحدّد مفهوم الكلمات: التحيّز، الانفصالية، الاعتزال، والقديسين.
- التحيّز: كلمة التحيّز معناها معاداة شخص واتخاذ موقف مضاد له بحكم مسبق في عقولنا على غير أساس عادل، أو بغير معرفة كافية لذلك الشخص. هذا التحيّز غير العادل الذي نوجّهه ضد الأفراد، أو الجماعات، أو الشعوب بسبب اللون، أو العقيدة أو العادات هل هو حقّ؟ وكلمة الله هي ضدّ التحيّز غير العادل بكل ألوانه. يقول يعقوب في رسالته: "يا إخوتي، لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح، رب المجد، في المحاباة." (يعقوب 1:2) ثم يشرح كلماته بقوله: "ولكن إن كنتم تحابون، تفعلون خطية، موبَّخين من الناموس كمتعدّين." (يعقوب 9:2)
الانفصالية: وتعني العزلة عن الناس. تعني أن ينفصل الفرد عن المجتمع. والرب يسوع المسيح لا يريد انفصال المؤمنين عن المجتمع الذي يعيشون فيه انفصالاً عضويًا، فقد قال في عظته على الجبل: "... لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ... فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ." (متى 14:5-16) يتّضح لنا من هذه النصوص الصريحة أننا كمؤمنين لا يجب أن نتحيّز ضدّ أحد أو تكون الانفصالية طريقنا.
- الاعتزال: وكلمة الاعتزال التي يطالبنا به الله تعني التخصيص لله. أي إحساس المؤمن الدائم بأنه ملك للرب وحده، وأنه ينتسب إلى ملكوته.
يسمَّى المؤمنون قديسين، وهذا يعني أنهم ملك للرب، وخاصَّة الرب، ومتميزون عن الناس الذين حولهم بهذه النسبة الخاصة.
يقول بولس الرسول: "لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ... لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ‘... فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ." (2كورنثوس 14:6-18 و1:7)
من هذا النص نرى أن المؤمنين المولودين من الله، يدعوهم الرب لحياة القداسة بمعنى أن يكونوا مخصّصين تمامًا للرب، يحملون في نفوسهم وفي كل كيانهم "سمات الرب يسوع"، وعلى هذا فإنهم لا خلطة لهم بالإثم، أو شركة في أعمال الظلمة، أو اتفاق مع خطط الشيطان، أو موافقة مع الأوثان، أو نصيب مع غير المؤمنين. إنهم مترفّعون عن الدنايا، والفساد، والنجاسات المنتشرة في العالم. وهذا هو الاعتزال بمعناه الكتابي الواضح.
والأمر الإلهي بالاعتزال يحمل في ثناياه مسؤوليات وأخطار ومكافآت.
أما المسؤوليات فهي تشتمل على كراهية أعمال، ووجهات نظر، وفلسفات النظام العالمي الشرير، هذه هي الناحية السلبية. وهي باليقين تعني ألا نعتنق أو نشترك في فلسفة العالم الحاضر الشرير، وهي الفلسفة التي تقول إن كل ما يجعلك تحسّ باللذة افعله.
ومن الناحية الإيجابية فهذه المسؤوليات تعني ضرورة تركيز أنظارنا على المسيح. "نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ." (عبرانيين 1:12-2)
علينا كمؤمنين أن نذكر أننا عبيد للمسيح، "وَأَمَّا الآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ، وَصِرْتُمْ عَبِيدًا ِللهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ، وَالنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ."
أما أخطار الاعتزال فهي متعددة، منها: الرفض من العالم الذي رفض ربنا، والاستهزاء، والاضطهاد، وهذا قليل من كثير من أخطار الحياة المكرسة بالتمام للرب.
لكن مع الأخطار هناك مكافآت. وأولى هذه المكافآت أن يكون الله لنا "أبًا"، ونكون نحن له بنين وبنات (2كورنثوس 18:6). ويصف بولس الله في هذا النص بأنه: "القادر على كل شيء." فالإله الذي هو أبونا هو أيضًا القادر على كل شيء، والذي يحملنا على ذراعيه الأبديتين.
أما المكافأة الثانية فيذكرها بولس الرسول فيقول: "لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا." (2كورنثوس 17:4) وكأن بولس يقارن ضيقات المؤمنين والأخطار التي يتعرّضون لها بسبب اعتزالهم عن شرور العالم بالمجد الأبدي، ويرينا أن المجد الأبدي أفضل جدًا وأكثر من كل الآلام التي نمرّ بها. "فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا." (رومية 18:8)
في الختام أقول إن "اعتزالنا للرب" يعني أن نعيش في العالم نضيء كأنوار لمجد سيدنا. هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى نحفظ أنفسنا بنعمة الله بلا دنس من العالم. إن الاعتزال بهذا المعنى أمر إلهي وليس اختيارًا شخصيًا.