صديق لي، غير مسيحي، أعزّه وأكرمه سألني يومًا سؤالًا لطيفًا فتح بيننا بابًا للحوار.
قال صديقي: "لماذا توراة اليهود وإنجيل المسيحيين يشكلان لديكم كتاباً واحداً تسمونه الكتاب المقدس؟"
فاصطحبت صديقي إلى مقهى قريب وجلسنا لبعض الوقت ثم، قلت: "إن قصة الله مع الإنسان يا صديقي قصة أعلنها الوحي ابتداءً من خلق آدم عبر التاريخ كلّه مرورًا بأعداد من الأنبياء الذين ظهروا قبل الميلاد وتنبأوا عن المسيح، ثم جاء المسيح وانطبقت عليه نبوات مَن سبقه مِن الأنبياء. فكما تلاحظ فإن القصة واحدة، سواء في التوراة أو في الإنجيل. ولأن القصة واحدة فأنت تجد أن فصولها منسجمة بعضها مع بعض لأن المصدر واحد والمؤلف واحد، إن جاز التعبير، وهو الله. فلو اختلف المصدر لاختلفت لهجة التوراة عن لهجة الإنجيل. لكن الانسجام بين كلام الله في التوراة وكلام الله في الإنجيل يدل على أن المصدر واحد والمؤلف واحد رغم أن ما بين توراة موسى وإنجيل المسيح قرابة ألفَي عام. ولأن المؤلف واحد وهو حيّ جالس على عرشه، لذلك تشابكت بل والتحمت فصول الرواية ما بين التوراة والإنجيل التحامًا تشكّل منها جسمٌ واحدٌ، وهو ما أشرت إليه يا صديقي، الذي نسميه بالكتاب المقدس.
قال صديقي: ما أعرفه من التاريخ أن اليهود قاوموا المسيحية منذ نشأتها فكيف يحصل الانسجام والتوافق بينكما بالفكر والعقيدة حتى التحمت توراتهم بإنجيلكم في كتاب واحد هو الكتاب المقدس؟
فأجبته: صحيح أن المسيحيين واليهود على خلاف دينيٍّ كبير ولكن لا خلاف بين التوراة والإنجيل لأن مصدر التوراة والإنجيل مصدر واحد كما أسلفت وهو الله واهب الوحي. وهو لا يمكن أن يناقض نفسه. أما الخلاف بيننا كمسيحيين وبين اليهود فهو خلاف في عقلية الناس وتأويلاتهم وليس في أصول الوحي. وأساس الخلاف يتعلق بموقف اليهود من المسيح فهم ينكرون أن المسيح الذي جاء قبل ألفَي عام هو المسيح الذي ينتظرونه. ذلك كان بداية الانحراف عن الحق؛ على الرغم من أن نبوات توراتهم التي أنبأت بالمسيح كانت نبوات واضحة سبقت ميلاده بمئات السنين فأعلنت ولادته من عذراء، وحدّدت مكان ولادته في بيت لحم، ونطقت باسمه الصريح، ورسمت فحوى رسالته، وأشارت إلى عظمة معجزاته. ولما جاء المسيح تم فيه كل ما تنبأت عنه التوراة بالحرف والكلمة. ولكن اليهود أنكروه ورفضوه. فالخلاف يا صديقي خلاف في عقلية اليهود وتأويلاتهم وليس في توراتهم. أما نحن كمسيحيين فخلافنا الديني مع اليهود لم يدفعنا إلى تكفير توراتهم والتنكر لكتابهم، ولم يؤدِّ بنا إلى اتهام توراتهم بالتزوير أو التحريف كما يفعل البعض اليوم. فنحن لو وقعنا في هذا الخطأ لكنا كمن يعادي الله ويتهم كتبه بالتزوير، ولدخلنا مع الغير في حلقة مفرغة من الجدال العقيم، إنما الخلاف كان وما زال في: "مَن سطع النور في وجهه قبل أن يُشرق على غيره فأغمض عينيه عن النور وغطى وجهه ورفض التعامل مع النور، فخسر البركة وعانى ما عاناه على مدى التاريخ من تشرد، ورعب، وضياع، وعدم استقرار كما هو حاصل اليوم مع اليهود." وأنا إن كنت أفهم النبوات التي تشير إلى المستقبل، فالنبوءات تشير إلى معاناة كثيرة قادمة لذات الشعب الذي جاء الملك السماوي إليه وطرق بابه قبل كل الشعوب؛ أما هذا الشعب فتنكّر له وأبى أن يفتح له ويستقبله. وهذا يفسر معنى كلمات المسيح الوداعية لهم قبل أن صُلب بأيام معدودة حين قال: "يا أورشليم، يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا."
قال صديقي: "ما أعرفه أن فريقًا من اليهود آمنوا بالمسيح واتبعوه. أما الفريق الآخر وهم الأغلبية فرفضوه؛ وباعتقادي أن خلافهم مع المسيح كان لأنه لم يسعفهم للتحرر من حكم الرومان آنذاك، فهم توقعوا مسيحًا سياسيًا يحارب الرومان ويطردهم من بلادهم. أما أن ينكروه أنه المسيح المنتظر فهذا ما استغربه، لأن توراتهم تحثهم على الإيمان به.
فقلت لصديقي: ما تفضلت به صحيح، فإن قسمًا من اليهود قبلوا المسيح وآمنوا به واتبعــوه وهــؤلاء انسلخــوا عـن الجسـم اليهودي مع الوقت بحكم التزاوج مع الشعوب المسيحية الأخرى.
أما الذين رفضوا المسيح فهم الغالبية والسبب في ذلك يا صديقي هو فتوى رجال دينهم الذين أعلنوا رفضهم للمسيح. أما الشعب فكان في حيرة من أمرهم لأن الكثيرين منهم رأوا المسيح، واستمعوا لخطبه، وتأثروا بتعاليمه، وشاهدوا معجزاته، ولمسوا حبه وحنانه، وتأثروا بما رأوه وسمعوه منه. ولكن لأن فتوى قادتهم الدينيين قالت: لا! هذا ليس المسيح الذي ننتظر، فقال الشعب وراءهم: آمين، كما قلتم نقول وبما أفتيتم نعمل. لذلك فالمثل الشرقي يقول: الشعوب على دين ملوكها. أما الذين تجرّأوا واتخذوا قرارهم وأعلنوا إيمانهم بالمسيح فهؤلاء تحمّلوا مسؤولية قرارهم... اضطُهِّدوا، وعُذِّبوا، ونُهِبوا، وبعضهم قُتِل وآخرون حُرِموا من ميراث أهلهم، وطُردوا، وشُرِّدوا، لكنهم تقَبَّلوا ذلك واعتبروه فخرًا وامتيازًا بأن يهانوا لأجل المسيح. وما نالوه من مجد من يسوع المسيح أعظم بكثير من متاع الدنيا."
هنا استأذنني صديقي وقال: "طالما أن التوراة كانت واضحة في نبواتها عن المسيح قبل ميلاده فحددت ميلاده من عذراء ومكان ميلاده في بيت لحم وغير ذلك من إشارات انطبقت على المسيح فكيف تتنكر الغالبية منهم للمسيح والصورة أمامهم واضحة؟"
فأجبت صديقي: "هذا السؤال يُدخلنا في حديث يحتاج إلى ساعات طوال من البحث والنقاش، لكن دعني أقولها باختصار: اليهود الذين نتحدث عنهم في زمن المسيح أناس شرقيون في عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، والشرقيون عادة قل من يتخذ قراره الحاسم بخصوص قضية مصيرية كهذه منفردًا، وحتى في عصرنا الحاضر قليلون من يتخذون القرار المستقل بحرية دون الارتباط برأي الآخرين من حولهم... فقلما ينفرد الشرقي بالقرار المستقل الذي يخصّ حياته ومصيره. فالشرقي دائمًا تابع لغيره حتى في أموره السياسية والاجتماعية... لا يخرج عن رأي الجماعة - حتى ولو اقتنعنا بخطئنا (وأنا لا أريد أن أعمم هنا) - لكن الحقيقة أن هذه ظاهرة واضحة في حياتنا كشرقيين نمارسها في سلوكنا وتصرفاتنا. فالقليلون منا من اتّخذوا لأنفسهم خطًّا مستقلًا عن رأي الغير. فالشرقي غالبًا تابع لجماعة ما ولا ينفرد بقراره بحريته أو استقلال رأيه بل يربط مصيره بمصير الغير."
قال صديقي: "لكن رأي الآخرين وتوجيهاتهم تنفع أحيانًا."
فقلت: "هذا حق ولكن عندما يكون الأمر متعلقًا بمصيري الأبدي فالمسؤولية هناك مسؤولية فردية، لأن كل إنسان سيقف منفردًا أمام الديان ليؤدّي حسابه عن ذنبه، فلا أحد يتحمّل مسؤولية غيره في يوم الدين."
قال صديقي: "اعتقد أن ما ذكرته هو حق والأمثال تجسد صورة ما ذكرت، فقد قيل: الشعوب على دين ملوكها. بمعنى أن ما يقوله كبير القوم تتبناه العامة، سواء حق أو غير حق."
والآن يا قارئي الكريم، هل أنت مستقل في رأيك؟ وهل ما تعتقد به هو بدافع قناعتك الشخصية أم أنك مجرد تابع لمبدأ أو رأي أو عقيدة مَن حولك، فتنساق معهم دون تفحّص أو دراية وتتساءل: أهُم على حق أم على خطأ؟ وبالمناسبة، هل خرجت عن نطاق ما تؤمن به في محيطك واطّلعت على الرأي الآخر، على رأي آخر يختلف عمّا نشأت عليه في صغرك؟ هل فتشت وتفحّصت عما لدى الغير من رأي سديد لعلّ فيه الحق؟ ولكي أقرّب لك الصورة أكثر، هل قرأت الكتاب المقدس؟ هل اطلعت على إنجيل المسيح؟ بكلمة أخرى هل اطلعت على المعتقد المسيحي من مصدر علمي صحيح أم جمعت المعلومة من الأحاديث الشعبية التي تتردّد على ألسنة العامة والتي لا تستند على حقائق؟ فالبعض من غير المسيحيين يأخذ المعلومة عن المسيحية من غير المسيحيين فتستحيل في ذهنه إلى حقائق مؤكّدة يقتنع بها بينما الواقع هو غير ذلك.