"وأرسل المنسحقين في الحرية." (لوقا 20:4)
دخل المسيح إلى مجمع الناصرة حيث تربّى، وأخذ السيد سفر إشعياء النبي الذي لما فتحه كان مكتوبًا فيه: "روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة."
والشيء العجيب هنا هو ذلك الوعد بالحرية الذي يقدمه المسيح للمنسحقين. والمنسحقون هم المهشمون كما جاء في الترجمة اليسوعية، وهم المحطمون من الناس الذين انكسرت قلوبهم وتحطمت روحهم المعنوية وتملّكهم اليأس والقنوط.
والحرية التي يقدمها المسيح هي:
أولاً: حرية للمنسحقين في الخطية
الذين سحقهم سلطان الخطية ينقسمون إلى فئتين:
1- الذي يخطئ ولكنه يكره نفسه لفعل الخطية – يسقط في الخطية ولكنه يشعر بعار الخطية ويخجل منها. هذا الإنسان عندما يصادفه نداء الحرية يرحب به وبأي ثمن. إنه مقيّد ومكبّل بالخطية ولكنه ليس محطمًا أو منكسر القلب في الخطية. قد ينحدر هذا الإنسان ولكنه يريد أن يرتفع مرة أخرى. قد يسقط ولكنه يقوم. إنه يشبه الحَمَل الذي يسقط ثم يقوم. هذا الإنسان ضميره حيّ.
2- الغارقون في الخطية - الذين غرقوا في الخطية إلى درجة غير متناهية وبصورة بشعة. الذين أخطأوا واستمروا في حياة الخطية حتى سحقت الخطية نفوسهم وشخصياتهم. والذين سحقتهم الخطية هم الذين سرقت منهم الخطية قوة استرداد الشخصية. إنهم ليسوا فقط الذين دخلوا سجن الخطية بل الذين استوطنوا في هذا السجن.
ذهبت الحساسية من الضمير. من كثرة الخطية تكوّنت طبقة قرنية في الضمير فلم يعد يحس أو يشعر. ماتت المقاومة لا بصورة إيجابية أو حتى سلبية وهكذا انعدمت الإرادة فلا طفرات إلى الأمام. ويشبه الخاطئ صورة الحشرة الصغيرة التي تتسلق عود الذرة وإذا الريح تحطّمها فتلقيها في التراب. وذهبت كراهية الخطية من قلوبهم – لا يخافون من الشر – لقد تكيّفت حياتهم بما يتفق مع طبيعة الخطية وشناعتها وانحطاطها. إن الخاطئ من هذا الصنف يقبل أغلاله ويحتضنها برضى وطيب خاطر.
حدثنا الأستاذ هنري دراموند عن شاب باع نفسه للمجون والفساد وأدمن على الخمر والمخدرات، ولما ضاق به الأمر ذهب لزيارة الأخصائي الذي قال له: يجب أن تقلع عن الخمر وما يصاحبها من خطايا وإلا فإن نهاية الحياة تنتظرك بعد ثلاثة شهور. وتطلع الرجل في وجه الطبيب وقال له: لا أستطيع! ثم بكى وقال: كلا، لا أقدر. وداعًا أيتها الحياة، أنا لا أستطيع أن أحيا بدون خمر.
هذه هي الخطية التي لا تكبّل الإنسان فحسب ولكنها تسحقه تحت أقدامها حتى يبدو وكأنه من المستحيل أن يقوم ثانية. إلى هذا الإنسان النجس الخاطئ المنسحق في الخطية يقدّم له الرب الحرية.
ثانيًا: حرية للمنسحقين في الشك
إن العصر الذي نعيش فيه هو عصر التساؤل والقلق. كلنا نجد طريقنا وسط ظلام كثيف من الشك. والشك في حقيقته يتبيّن في الآتي:
مقيّد في الشك: هناك من يشك ولكنه لا يريد أن يشك. وهذا الإنسان قد يركن على رأيٍ خاطئ، أو يركن إلى إيمان تقليدي. ولذلك لا يرى الحق الذي في المسيح. ولكن لا يوجد إنسان يأسف لعدم مقدرته أكثر من هذا الإنسان. إنه غير متأكد من أمور كثيرة ولكنه متأكد من أمر واحد وهو أن الشك ليس أمرًا سليمًا بالنسبة للإنسان العاقل السليم الشخصية. هذا الإنسان مقيّد بالشك وليس منسحقًا فيه.
منسحق في الشك: الذين يشكّون عن عقيدة ومبدأ يفعلون ذلك بنصرة وإيمان ومتعة. إنهم يتمتعون بمعارضة أي فكر أو رأي. ومشكلة هذا النوع أنه يستخدم طاقاته العقلية لكي يغطي خطاياه.
إن أخطر شيء في الوجود هو أن يتلاعب الإنسان بالحق تحت أي ظرف من الظروف. والخطية التي لا تُغفر هي خطية تشكيك الناس في الحق الإلهي المعلن من السماء.
أبشع الناس هو الذي يشك بنتيجة آثام شخصيته وخطاياه، وأخطر شك هو عندما يفقد الإنسان إيمانه بالإنسانية فينظر إلى كل إنسان على أنه لص وسارق. في شخصية هاملت نجد الرجل الذي يشك في كل شيء وفي كل من حوله، لذلك كان يتعذّب بسبب وبدون سبب. فقد إيمانه في أمه، وفقد إيمانه في عمّه، وهل يساعد الله إنسانًا فقد إيمانه في الأمومة؟ إنه ينحدر إلى أعمق أعماق الهاوية. ولو أن شابًا فقد إيمانه بالإنسانية وعاش في مدينة كبيرة فإنه سرعان ما يتحوّل إلى ابن ضال.
ثالثًا: حرّية للمنسحقين في المتاعب
لا يوجد إنسان في العالم بدون آلام ومتاعب وأحزان. قد ترى وجهًا مشرقًا ولكن كم من أحزان خلفه؟ إن المتاعب تجري وراء الناس وتؤثر فيهم بطرق مختلفة. وتؤثر المتاعب في الناس على مدى استجابتهم لها.
بعض الناس يُشفَون من الأسى والحزن بسرعة لأنهم يتناسون الأحزان. لم يفقدوا محبة المسيح التي تطرح الحزن والخوف إلى خارج.
البعض الآخر يقابل المتاعب بطريقة مختلفة، فيظنون أن طاقة الاحتمال ذهبت من متاعبهم فيفقدون الرغبة في كل شيء. وهم يشبهون ملوك الإنكليز الذين لا يتسمَّون مرة أخرى. إنهم يتركون الخدمة الدينية بسبب مشكلة - ليس لهم قلب في العمل والخدمة – ويتقاعدون من الخدمة العامة – إن كل مصادر وينابيع الرغبة التي فيهم جفّت تمامًا – ولو زاد الضغط فالانتحار وسيلة. وهناك انتحار روحي وعقلي وديني.
تحدث ج م باري في كتاب عن أمه التي فقدت ابنها ودخلت مخدعها وأغلقت الباب ولم تعد تكلّم أحدًا، وبكت الليل والنهار، وبعد عدة أيام دخل إليها ابنها الآخر فظنّت أنه الابن الذي توفّى عاد إلى الحياة مرة أخرى، وبكل أسى قال باري: إنه أنا يا أمي وليس أخي. وكانت هذه الأم تحتاج إلى ابن آخر.
ومَن غير المسيح يملأ فراغ الحياة وأحزانها ومتاعبها؟