فوجئ العالم بردود فعل المسيحيين لما يلاقونه من إرهاب وتفجير وتقتيل. بهدوء وثبات يطلبون مغفرة الله للقتلة لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون. لم يلعنوهم أو يشتموهم، لم يطلبوا نارًا من السماء تنزل وتبتلعهم، طلبوا الرحمة لهم. دهشة وتعجب أربكتا المجرمين ومن كلفوهم بالاعتداء على المسيحيين. وقفوا يصرّون على أسنانهم في غيظ وغلّ. كيف يحدث هذا؟
ألم يكونوا يعرفون أن المسيحية محبة. ولما عرفوها هجر بعضهم حياة الحقد التي عاشوها طويلاً، وأخذوا يبحثون عن سرّ ذلك السلام الذي يعيشه هؤلاء المسيحيون البسطاء. وحين وجدوه اعتنقوه. وخرج من الآكل أكلٌ ومن الجافي خرجت حلاوة.
يسوع حين جاء إلى العالم كان هو الحب، عاش وتحرّك وجال بيننا. كان يشع حبًا وهو يجلس مع الجموع يتحدث إليهم ويرشدهم إلى الطريق للحياة الأبدية ويفسر لهم المكتوب بمفهوم جديد ويرسم لهم علاقة الإنسان بالله وبأخيه الذي يعيش بجواره. كان يفيض محبة وهو يقول: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم." وكان يتضرّم حبًا وهو يطمئن قلوبهم ويقول: "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام؟ والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟"
وكان ينثر حبًّا وهو يجول بين الناس يصنع خيرًا. رأى الأرملة خلف نعش وحيدها، فتحنن عليها ولمس النعش وأقام الابن. أجاب توسلات الأبرص وقوله: إن أردت تقدر أن تطهرني. قال له: أريد فاطهر، ولمسه وطهره وشفاه. صرخ خلفه أعميان: ارحمنا يا ابن داود. لمس أعينهما فأبصرتا. رأى الجموع ملتفة حوله يسمعون حتى مال النهار وحلّ المساء ولم يتناولوا طعامًا. ثم مدّ يده وأمسك بالأرغفة الخمسة والسمكتين وأطعم خمسة آلاف رجل. هكذا كان ينثر حبًّا وشفاء وتطهيرًا وحياة في كل مكان حلّ فيه.
* * *
الطبيعي هو أن نحب حين تجري الحياة هادئة سهلة ميسورة بلا ضغوط، أما إذا تعقدت الأمور وتفاقمت الصعوبات، ننسى الحب ونركز على الاهتمام بأنفسنا والانشغال في الدفاع عن سلامتنا.
أما يسوع فكان كلما زادت التحديات والضغوط، زادت محبته إشعاعًا وتضاعفت. كتب يوحنا يقول: أما يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبّ خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى."
في الساعات الأخيرة له على الأرض، ركّز كل اهتمامه على تلاميذه. أعدّ لهم عشاء خاصًا وجلس كل واحد منهم في مكانه حول مائدة كبيرة. ولما اكتمل الجمع حوله دفعه الحب الذي أحبهم به أن يقوم عن العشاء، ويتّزر بمنشفة ويصب ماء في مغسل، ويحمله ويطوف به ويضعه تحت أقدام تلاميذه واحدًا واحدًا ويغسل أرجلهم. كان ينحني ويمسك بأرجل كل تلميذ ويضعها في المغسل، ويرفع بيديه الماء يغسلها ثم يمسحها بالمنشفة التي كان متزرًا بها. ولما جاء إلى بطرس، سحب رجليه بعيدًا ورفض أن يغسل يسوع قدميه قائلاً:
- يا سيد. أنت تغسل رجليّ؟!
أمسك يسوع رجليه بقوة وقال:
- إن كنت لا أغسلك فليس لك نصيب معي.
استسلم بطرس وترك رجليه بين يدي يسوع وهو يقول: يا سيد، ليس رجليّ فقط بل أيضًا يديّ ورأسي.
- الذي اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله.
حوار يعكس ما بقلب يسوع من حب لتلاميذه. لم يكن يفكر في الجلجثة ولا الصليب ولا التعذيب والألم والموت الذي هو ذاهب إليه.
كل ما بقلبه كان حبًا قويًّا جارفًا لتلاميذه.
* * *
بعد العشاء الأخير مع تلاميذه، خرج يسوع عبر وادي قدرون ودخل هو وتلاميذه بستان جثسيماني إلى حيث اعتاد أن يذهب ليصلي. وقرب منتصف الليل، اقتربت مجموعة من جند الهيكل وخدام من عند رؤساء الكهنة حاملين سلاحًا وعصي ومشاعل. وظهر في المقدمة يهوذا الإسخريوطي يقودهم إلى حيث يوجد يسوع في مكانه الذي يعرفه جيدًا. خرج إليهم ونظر إلى يهوذا، تلميذه الخائن، واهتزت مشاعره نحوه فهو أحد التلاميذ الاثني عشر. اقترب يهوذا منه وقبّله. أمعن فيه النظر في محاولة لإيقاظه من غفلته قائلاً:
- أبقبلة تسلّم ابن الإنسان؟
ثم تقدّم يسوع نحو الجمع وقال:
- من تطلبون؟
- يسوع الناصري؟
- أنا هو.
رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض.
مرة أخرى سألهم:
- من تطلبون؟
قالوا:
- يسوع الناصري. أجابهم وكان تلاميذه قد تجمّعوا خلفه محتمين به. مرة ثالثة قال:
- قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني، فدعوا هؤلاء يذهبون.
لم يستسلم لهم مغلوبًا على أمره. قدّم نفسه طوعًا ليذهب معهم إلى المحاكمة والصلب.
ارتبك التلاميذ واستلّ بطرس سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة ملخس وقطع أذنه.
في وسط هذا الموقف المتحفّز والجو متوتّر جدًا قال يسوع لبطرس:
- اجعل سيفك في الغمد. الكأس التي أعطاني الآب ألا اشربها؟!
ثم تحوّل إلى ملخس وقال:
- دعوا إلى هذا. ولمس أذنه بيده وأبرأها.
تقدم الجند وقبضوا عليه وأوثقوا يديه التي ما تزال بها دماء أذن ملخس.
حتى تلك اللحظة كان يسوع ينثر حبه على من حوله. دافع عن تلاميذه وأصرّ أن هؤلاء يذهبون، وأنّب يهوذا بلطف وحاول أن يوقظ ولاءه القديم. وفي أول ذكر ليهوذا الإسخريوطي بعد ذلك يسجل متى أنه حين رأى أن يسوع قد دين، ندم وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلاً:
- قد أخطأت إذ سلّمت دمًا بريئًا.
محبة خالدة قوية مضيئة مبهرة وسط ظلام الخيانة والظلم والغدر والقتل. لم يدرك التلاميذ حينئذ عمق هذه المحبة لكنهم أدركوها فيما بعد وعاشوا لها ونادوا بها وبذلوا أرواحهم في سبيلها.