Voice of Preaching the Gospel

vopg

الدكتور صموئيل عبد الشهيدإننا نستهل الدخول في دوَّامة العام الجديد من غير أن ندرك ما يضمره لنا المجهول من أحداث جسام، خيرًا كانت أم شرًّا.

وتنطبق هذه القاعدة على جميع الناس من غير استثناء. ولا يسع أيٌّ منا أن يتنبَّأ بمآتي الغد فيتَّخذ ما يكفي من الإجراءات الضرورية التي تقيه من شرورها، أو يعدَّ لها الأجواء الصالحة لتكون مصدر خير وبركة.
غير أن هذه القاعدة العامة يمكن أن تجريَ في مسار مختلف إن كان صاحبها قد رفع عينيه "إلى الجبال من حيث يأتي" عونه كما يردِّد صاحب المزامير. فهو في هذه الحالة يركن إلى قوة عليا تعرف ما ستؤول إليه حياة كل واحد منَّا مهما تقلَّبت بها الظروف والأحوال، لأن المتَّكِل على الله لا يخزى أبدًا. هذه الحقيقة هي من شأْن المؤمن الذي كرّس حياته وأسلم إرادته لمن في يده مقادير ومصائر كل الناس.
إنَّ مثل هذا اليقين يولِّد في النفس طُمأنينةً وشعورًا بالأمن والسلام، تمامًا كما يشعر الولد الصغير عندما يلوذ بحماية والده من خطر داهم. وهذا في الواقع هو امتيازٌ رفيعٌ لا يتمتَّع به إلَّا الذين أعتقهم المسيح من أغلال العبودية "وأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". وكأبناء الله، فإننا نعلم تمام العلم أننا ورثة الملكوت؛ وبذلك نتحرّر دائمًا من الخوف والرعدة من المجهول، ولا يعترينا رعب من المصير الذي ينتظرنا بعد الموت.
والواقع، إن الإنسان يقف عند ناصية طريقين وعليه أن يختار أيًّا منهما عليه أن يسلك: إما طريق التوبة والثقة بخلاص المسيح ويقين الحياة الأبدية؛ وإما التنكر لخطة الله الفدائية واستنكارها والإذعان لغواية رئيس هذا الدهر المفضية إلى الهلاك الأبدي. ولا يحتاج أحدٌ إلى بذل أي جهد مرهق لاستكشاف حقيقة هاتين الطريقتين لأنهما ظاهرتان بارزتان في تعليم الكتاب المقدس، وما على المرء إلَّا أن يطالع نصوص هذا الكتاب الإلهي حتى يقف وجهًا لوجهٍ أمام هذين الاختيارين. والأعظم من ذلك أن ما فيه من طوباويات، ومواعيد، وإنذارات، وتحذيرات، لا بدَّ أن تتحقق نصًّا ومضمونًا.
ولكن السؤال الذي عليَّ أن أطرحه الآن هو: ما هي الدواعي التي تُعيق غير المؤمن - وأحيانًا غير المؤمن إذ اعتراه الضعف - عن التوبة؟ ما الذي يخشاه ويجعله يتردَّد في الإقدام عليها؛ هذه الخطوة التي تشرِّع أمامه مصاريع الحياة الأبدية المفعمة بالسلام، والسعادة، والغبطة التي لا تُستقصى في محضر فاديه وإلهه؟ بل ما الذي يجعله يتعلَّق بهذه العوائق ويحتقر جميع الامتيازات التي وفَّرها الله للذين أصبحوا من أبناء الملكوت؟
وفي ما يلي سأعرض بإيجاز لبعض هذه العوائق الفانية لأنها، في الواقع، هي جزء حيٌّ من سيرتنا ومواقفنا، ولا يتسنَّى لنا التهرُّب منها، ما زلنا على قيد الحياة، لعجزنا عن التحرر من طغيانها بفعل قدرتنا الشخصية إذ تستهوينا وتدغدغ مطامعنا، ومطامحنا، وأحلامنا.

أوَّلًا: شهوة المال
يحذِّرنا الكتاب المقدس من شهوة المال لأنه "أصل لكل الشرور." (1تيموثاوس 1:6) قد يبدو للقارئ الكريم أن الكتاب المقدس قد جار في إدانته للمال بهذه الصورة المطلقة لارتباط المال بواقع حياتنا اليومية، والحركة الاقتصادية العامة من استيراد وتصدير، وتقدّم كل بلد وازدهاره. هذا اعتراض وجيه وعملي. ولكن ما استهدفه الكتاب المقدس هو التحذير من أن يتحوَّلَ المال من وسيلة من وسائل العيش إلى إله معبود. عندئذ تتغير المعادلة ويضحي المال هو المعبود والإنسان إلى عابدٍ يتلهَّبُ شهوة لاقتنائه ويصبح شعاره ‘الغاية تبرر الوسيلة’ مهما كان الثمن باهظًا. إن مثل هذا المتعبِّد للمال يخشى الانعتاق من سحره ويأبى أن يتخلَّى عن وثنه لأنه كما قال المسيح في إنجيل لوقا 13:16 "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال"، أي لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال في آن واحدٍ.

ثانيًا: شهوة تعظُّم المعيشة
يشير يوحنا الرسول في رسالته الأولى 16:2 إلى أن "كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة"؛ وهذا الكل "ليس من الآب بل من العالم". هناك صلة وثيقة بين شهوة المال وتعظُّم المعيشة لأن تعظُّم المعيشة مدعاة لشهوة المال والشعور بالكبرياء والافتخار بل والسؤدد. بل إنها تفضي في معظم الأحيان، إلى عدم النزاهة، والتصلُّف، ومحبة الذات واللذات، دون محبة الله. ومع ذلك فإن عشَّاقها في أحضانها غافلون غير آبهين بالتوبة لأنهم مولعون بها. إن مثل هذه الحياة تتناقض مع مشيئة الله لأن الله يطوِّب الودعاء والمتواضعين الذين نبذوا التباهي والتفاخر. لا ريب أن هناك طائفة من المؤمنين الذين باركهم الله برفاهية العيش، ولكنهم لم يتَّخذوا من غناهم أداةً للتسلُّط، والكبرياء، والمنافسة، بل عمدوا إلى إخضاعها وتسخيرها في خدمة الوهَّاب المنَّان وتمجيده فانتصروا على حوافزها.

ثالثًا: شهوة الجسد
من المعيقات الرهيبة التي تقف حجر عثرة مُهلك في طريق التوبة هي منازع الشهوات الجسدية على اختلاف أنواعها وتباينها. وما أشبهها بالجحافل المتوحشة التي تهاجم كل من يتحدَّاها أو يعترض سبيلها. ومع شدة شراستها فإنها مغرية براقة بالمباهج الخادعة التي يتهافت عليها الناس ولم ينجُ من سطوتها حتى الأنبياء. ولعل في مأساة النبي الملك داود خير مثال على قوة توحُّشها التي أسفرت عن الفواجع التي ألمّت به وبأفراد أسرته، فأصبح شريدًا طريدًا حتى كاد أن يخسر عرشه. هناك صراع مستمر بين أهواء الجسد ورغباته وبين أشواق الروح. ولكن عندما تطغى "الأنا" على الإرادة وتستأسر ذات الإنسان وتضحي قبطانه تجنح به آنئذ إلى المهالك بالرغم عنه. إن "الجسد يشتهي ضد الروح" (غلاطية 17:5)؛ وإذا ما تغلَّب الجسد عليها يُكبِّلها بأصفاده ويعطِّل فاعليتها. وهذا ما حدث حقًّا مع أبوينا الأولين. نقرأ في سفر التكوين 6:3، "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وشهية للنظر" فأكلا منها فصارت كالسم الزعاف. ومع ذلك، فإن الإنسان الغارق في حمأة الشهوات المخاتلة المحببة تجعله يضرب بالتوبة عرض الحائط ويهرع خلفها كالعبد الذليل.

رابعًا: شهوة السلطة
من الشهوات المستشرية في الطبيعة الإنسانية النزوع نحو السلطة، لا فرق في ذلك إن كان في الحقل السياسي، أو الحقل التجاري، أو في الوظائف، أو المحافل الدولية، أو حتى في الحقل الديني. وقد تسفر السلطة في كثير من الأحيان عن الميل للاستبداد والمظالم. فالسلطة إذا ما أُفلتت من لجامها تصبح قوة جامحة مهما تنوّعت أشكالها. ولا شك أيضًا أن كل مؤسسة، أو دائرة، أو شركة، أو مجلسًا إداريًّا يتطلب شخصًا مؤهَّلًا يحمل مسؤولية الإدارة، وهي مسؤولية خدمة للصالح العام وليست للمصلحة الذاتية التي إذا ما تحوّلت إلى شهوة سلطة تترك خلفها كثيرًا من ضحاياها لأنها غدت إلهًا يعبد. وهذا موقف خطير يتناقض مع موقف المسيح في الليلة التي قبض فيها عليه ليُصلب إذ ائتزر بمنشفة وقام على غسل أرجل التلاميذ ليعلمهم درسًا بليغًا في الخدمة. وفي إنجيل متى 20:20-28 قال لهم: "أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلّطون عليهم فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا. ومن أراد أن يكون فيكم أوَّلًا فليكم لكم عبدًا. كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم."
إن شهوة السلطة هي كالسرطان الذي يسري في جسم الإنسان حتى يفنيه وهي من الروادع التي تعيق الخاطئ عن التوبة. ولكن الحقيقة الرهيبة أن هذه المعيقات عن التوبة: شهوة المال، تعظم المعيشة، شهوة الجسد، وشهوة السلطة تفنى مع فناء الإنسان وتضحي في خبر كان على الأرض، ودينونة مخيفة في الأبدية.
وصفوة القول، لا أجد وصفًا لهذا العالم الذي نعيش فيه أدقُّ مما أورده الوحي الإلهي في 2تيموثاوس 2:3-4 عن عالمنا المعاصر (أرجو من القارئ مراجعة هذه الأعداد). وطلبتي إلى الله أن يزيل الغشاوة عن عقول الوالغين في شهوات هذا العالم الزائل، وينير بصائر التائهين في متاهات عالم فانٍ.

المجموعة: شباط (فبراير) 2018

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

544 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
11577785