قال الرب يسوع للمرأة السامرية: "أنا الذي أكلمك هو."
نحن الآن بصدد التدقيق في بحث الحوار الذي دار بين المرأة السامرية ويسوع، ونجد فيه أننا نقف أمام أمرين:
الأمر الأول، يتعلّق بنص هذا الجزء من الحوار في إنجيل يوحنا 25:4 قالت المرأة السامرية ليسوع جملتين:
أولاً: "أنا أعلم أن مسيّا، الذي يُقال له المسيح، يأتي."
ثانيًا: "فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء."
أما يسوع فقال لها جملة واحدة وهي: "أنا الذي أكلمك هو." (ع 26) وكانت كافية للرد على جملتيها. أي، أنا هو المسيّا الذي تسألين عنه، وتنتظرينه حسب الكتب والنبوءات. أنا الواقف أمامك الآن هو مسيّا أي المسيح، وليس هناك مسيحًا آخر غيري.
قالت: "فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء." فأجاب يسوع: "أنا الذي أكلمك هو." أي، أنا الذي أُخبر بكل شيء، لأني أعلم كل شيء! وأعاين كل شيء، لأني موجود قبل كل شيء!
وُلد يسوع في الجسد بعد ولادة يوحنا المعمدان. ومع ذلك يقول عنه يوحنا المعمدان: "هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي." (يوحنا 15:1)
يسوع كان قبل الكل. هو الكائن الذي كان، والذي يكون، والذي سيكون إلى منتهى الأيام وبعدها... لأنه هو المسيّا أو المسيح هو الله!
الأمر الثاني، ويتعلّق بكلمة جاءت في كلام المرأة السامرية
قالت السامرية: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي."
إن كلمة "مسيا" التي وردت في كلامها مشتقة من كلمة مسيح. والمسيح هو الممسوح.
في العهد القديم كانت هناك ثلاث وظائف للمسحة. وكان الأشخاص يمسحون بالزيت لإتمام هذه الوظائف.
في 1ملوك 16:19 نرى أن الله أمر إيليا بأن يمسح أليشع نبيًا؛ والمسيح هو كنبيّ ممسوح. وفي إشعياء 1:61 نقرأ عن أن الله مسحه ليكون نبيًا. هذه هي الوظيفة الأولى للمسحة بأن يمسح الشخص ليكون نبيًا.
وفي سفر الخروج 41:28، و7:29 نقرأ عن مسح الكاهن بالزيت ليصير كاهنًا. هذه هي الوظيفة الثانية للمسحة، أي يمسح الشخص ليكون كاهنًا.
وفي 1ملوك 45:1 نقرأ عن مسح الملك سليمان. وحين دخل النبي صموئيل بيت يسّى وعرف أن إرادة الله أن يختار داود ملكًا مسحه. وهذه هي الوظيفة الثالثة للمسحة.
من هذه الوظائف الثلاث نجد أن المسحة يمكن أن تكون للنبوة أو للكهنوت أو للمُلك. ولكن حينما يقول المسيح أنه المسيا المنتظر، فليس معنى ذلك أن تكون مسحته لمجرد وظيفة نبي، أو كاهن، أو ملك. ذلك لأن المسيح ليس إنسانًا عاديًا، بل هو ربّ الكيانات، لذلك أيضًا هو أعظم من نبي، ورئيس كهنة، وملك الملوك ورب الأرباب!
هناك حقيقة هامة وهي أن الرب يسوع أعلن للسامرية بأنه المسيح. وفي لوقا 20:9 سأل يسوع التلاميذ قائلاً: "وأنتم، من تقولون أني أنا؟" أجاب بطرس وقال: "مسيح الله!" وقَبِل المسيح هذا القول. ومع ذلك لم يعلنه بصورة عامة للجميع. ففي أوقات كثيرة نجده يأمر التلاميذ أن لا يعلنوا هذه الحقيقة. ولعلّ عدم الإعلان العام هذا يرجع إلى سببين:
1- لو عُرفت حقيقته لقام الشعب وتوّجوه ملكًا ومسيحًا. ولو فعلوا ذلك لقامت الدولة الرومانية وبطشت بهم وقتلت كل من يحاول أن يقوم بثورة ضدها، وأنهت خدمة المسيح قبل أن تأتي ساعته.
2- السبب الثاني لرفض هذا الإعلان صراحة إلا بعد قيامته، هو عدم قبوله للمفهوم السائد بين اليهود عن المسيا المنتظر الذي في عُرفهم بأنه سيأتي إليهم وحدهم وينصرهم على الأمم، بل أعلن أنه جاء لكي يخلص العالم كله. وهناك جانب آخر من صورة المسيا في ذهن اليهود وهو أن يكون ملكه ملكًا ماديًا. لكن المسيح رفض ذلك وأعلن دائمًا أن ملكه ملكٌ روحيّ، وقد أتى لكي يخلص ويبذل نفسه فدية عن كثيرين.
أما الجانب الآخر الذي كان ينظر به اليهود إلى المسيا المنتظر هو أنه سيساعد الأبرار ويفني الخطاة. لكن المسيح يرفض تلك النظرة. لأنه لم يأتِ ليميت الخطاة بل ليخلصهم ويحييهم بموته عنهم. جاء صديقًا للعشارين والخطاة، فلم يأتِ عدوًّا لهم.
طبعًا كان المسيح يعرف أنه المسيا المنتظر، وهو الذي أعلنها للمرأة السامرية، وقبِل إعلانها من بطرس في قيصرية فيلبس. إلا أنه فضّل أن يبقيها سرًا إلى حدّ ما، حتى لا يساء فهم مهمته ورسالته.
دعونا نسأل أنفسنا: إن كان المسيح المنتظر هو سر رجائهم وموضوع صلاتهم، وينتظرونه بفارغ الصبر، لماذا إذًا لم يتعرّفوا عليه بل رفضوه وصلبوه؟
نعم، هناك أكثر من سبب جعل اليهود ينكرونه ويرفضونه ولم يؤمنوا به عندما جاء:
هناك خطان من النبوات التي تنبأت عن مجيء المسيح: الخط الأول يقدم المسيا الملك المنتظر، الغالب المنتصر. والخط الثاني يقدم المسيح المتألم المضحّي. واليهود الذين قرأوا هذه النبوات لم يستطيعوا أن يوفّقوا بين هذه وتلك. بل إن تلميذًا مثل بطرس أعلن في لحظة أن المسيح هو المسيا المنتظر وفي لحظة أخرى قال: "حاشاك يا رب أن تُصلب." فبطرس كباقي اليهود، تعذّر عليه أن يتقبّل حقيقة مجيء المسيح لكي يتألم ويُصلب. لأن الفكرة التي كانت سائدة في تلك الأيام هي أن المسيح لا يمكن أن يُصلب، بل حتى لا يمكن أن يُقبض عليه ويعذّب ويُهان... لأنه في نظرهم عندما يجيء المسيا سيكون مسيطرًا متسلّطًا يقبض على الجميع. لذلك لم يستطيعوا أن يقبلوه، مع أنهم سألوه: هل أنت المسيا؟ ثم صلبوه!
كذلك لم يعرف اليهود المسيح لسبب آخر، وهو أن النبوات تحدثت عن مسيح واحد في مجيئين، وهم لم يستوعبوا هذه الحقيقة. ففي المجيء الأول أتى متواضعًا لم يجد أين يسند رأسه، فأهانوه وشتموه، واستهزأوا به وصلبوه، ودُفن في قبر مستعار ثم قام من الأموات. وهكذا تحققت نبوءات المجيء الأول.
وهناك نبوءات تحدثت عنه كديان للذين رفضوه. لذلك لم يستطع اليهود أن يفرّقوا بين هذه وتلك.
والآن، دعونا نسأل أنفسنا: هل نحن عرفناه حقًّا في مجيئه الأول؟ وهل نحن ننتظر ونتشوّق لأن نعرفه في مجيئه الثاني؟
في عبرانيين 14:4 يقول: "فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات، يسوع ابن الله فلنتمسّك بالإقرار." هل عرفناه بهذه الصورة؟ لقد جُرّب مثلنا، وحمل خطايانا، وسبقنا داخلًا قبلنا إلى الأقداس ووجد لنا فداء أبديًا. وهو الآن في المجد يشفع فينا. وفي شفاعته يقيمنا حين نسقط، ويردّ نفوسنا، ويهدينا إلى سبل البر، وإذ لنا هذا المسيح رئيس الكهنة فلنتمسك به ونتقدم بثقة إلى عرش النعمة، لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حينه.
إنه المسيا، يسوع المسيح، الذي جاء ليخلّص جميع الخطاة. هذا الإيمان هو الذي سيقودنا نحن إلى طريق الخلاص الثمين.