في مطلع هذا العام الجديد لا بدّ لنا من وقفة متأملة نستعرض فيها مسيرة أحداث حياتنا مع الرب في إطارها الروحي، ومدى أمانتنا في علاقتنا معه، ولا سيما في إقامة المذبح العائلي. وفي رأيي أن هذه الخدمة المقدسة هي من أهمّ مقوّمات كيان حياتنا العائلية والتي لها مساس مباشر في بناء نموّ الكنيسة وانتعاشها.
ويبدو لي، وأرجو أن أكون مخطئًا، أن قلّة من العائلات المسيحية من تسعى جاهدة في ترسيخ أسس مبدأ المذبح العائلي متذرّعة بأعذار قد يتّسم بعضها بالأهمية، وإن يكن في إمكان مدّعيها التغلّب عليها. كما في وسعه العمل على إحياء أو الإقدام على بدء بناء هذا المذبح الروحي في نسيج الحياة الأسروية الروحية اليومية.
ولكي لا يكون حديثنا موسومًا بالمطلق، علينا أن نعرّف أولاً ما هو المقصود بالمذبح العائلي، ثم ما هي أهدافه ونتائجه.
التعريف
المذبح العائلي هو الخطوة الأولى في بناء الكيان الروحي لأية أسرة مسيحية جعلت المسيح هو محور حياتها. هو اجتماع يومي تعقده العائلة ككل، للمشاركة الروحية والتأمل في كلمة الله في وقت مناسب تتوافر فيه الفرصة لمعظم أفراد الأسرة أو كلهم للمشاركة فيه. كذلك تعمد العائلة إلى وضع أمام "مذبح الرب" بالصلاة، والتأمل، والشكر، كل ما تودّ أن تُسِرَّ به إلى الآب السماوي من شكر، أو أوجاع، أو هموم، أو طلبات أخرى لنفسها ولأجل الآخرين.
هذا هو التعريف العام للمذبح العائلي الذي يحمل في طياته أمورًا شخصية أخرى مرتبطة بحياتنا اليومية.
أهداف المذبح العائلي
أولاً، إحياء روح الوحدة والتفاهم. عندما تجتمع العائلة أمام المذبح الإلهي، فإنها تتقدّم منه بروح واحدة، وقلب واحد لتسكب أمام الله كل ما له علاقة بأفراد العائلة، فيصلي أحدهم من أجل الآخر في اندماج كلي، فضلاً عن المشكلات العامة التي تلمّ بالعائلة أو الكنيسة.
ثانيًا، زرع بذور الإيمان في نفوس الأولاد الذين يشهدون بأم أعينهم قوة استجابة الصلاة. كما أنهم يتلقّنون الآيات الكتابية التي تُتلى عليهم والتي يقصّها الوالدون كما ورد في سفر التثنية 7:6 "وقصّها على أولادك." وبذلك ينشؤون مشبّعين بكلمة الله ومراميها وصدقها، ومن ثمّ يحصدون ثمارها.
ثالثًا، تعميق طبيعة الحياة الزوجيّة لأن بانيها هو الرب يسوع المسيح. ويساعد ذلك على المحافظة على قداسة الحياة الزوجية، في جميع ممارساتها اليومية، فتترك انعكاساتها الصالحة على أولادهم ومجتمعهم، وبذلك يصبحون المثل الأعلى والصورة البهيّة للحياة الزوجية السعيدة.
رابعًا، توليد روح الثقة بين أفراد الأسرة لأن الشركة الروحية لا حدود لها في الحياة المسيحية، فكم بالأحرى إذا اجتمعت معًا الوحدة العائلية الجسدية مع الوحدة العائلية الروحية. بل إن مثل هذه الصلات تزيد من تماسك الروابط العائلية على جميع الأصعدة، وتجعل من العائلة بنيانًا متراصًّا يجابه صروف الدهر ومتاعبه بقوة وشجاعة، لأن الوحدة العضوية التي تجذّرت في حياة الأسرة تعجز عواصف الزمن عن تهديمها. فالأسرة، من حيث تكوينها هي شريعة إلهية، ومن وحداتها يتكوّن المجتمع بعامةٍ، والكنيسة بخاصة. لهذا فإن الأسرة هي الرمز المصغّر للكنيسة المحلّية وللكنيسة الجامعة على حدٍّ سواء.
خامسًا، جعل حياة العائلة شهادة حيّة في المجتمع الذي تعيش فيه. فكما أن الإنسان الذي انتقل من الموت إلى الحياة، أصبح خليقة جديدة في المسيح، وأضحى نورًا مضيئًا في ظلمات هذا العالم فإن الأسرة المكرّسة التي تستمدّ نورها من شخص المسيح، وتتغذّى بكلمة الرب ووصاياه، وتتمتّع في الصلوات ببركاته، وفيوض نعمته، تغدو تلك المنارة التي تجتذب إليها الكثيرين. إن الصورة التي يراها المجتمع البعيد عن الرب في المجتمع المسيحي، بل في الأسرة المسيحية تختلف كليًا عما يراه في تضاعيف الحياة اليومية من شرٍّ وانحراف، وانهيار ومآسٍ لاأخلاقية؛ إذ تصبح هذه الصورة هي الشهادة الناطقة بعمل المسيح في حياة الأسرة وبالتالي في حياة الكنيسة. ويشترك في ترسيخ هذه الصورة الباهرة الروعة كل فرد من أفراد العائلة المسيحية، إذ الجميع يكونون ملكًا للرب أو كما قال يشوع في خطابه الشهير لبني إسرائيل في سنة وداعه: "أما أنا وبيتي فنعبد الرب." فالأسرة المسيحية لكي تكون فاعلة في المجتمع عليها أن تكون مثالاً في حياتها وعلاقتها بالرب. وبذلك يكون المذبح العائلي هو التجسيد الساطع لعمل الله في حياة الأسرة.
أسلوب ممارسة خدمة المذبح العائلي؟
ما هي الخطّة السليمة التي يتوجّب على الأسرة أن تعتمدها في هذه الممارسة المقدّسة التي من شأنها أن تثبّت دعائم الصلات الروحية مع الله، والكنيسة، والمجتمع؟
أودّ هنا أن أقتصر في بحثي على بعض العوامل الهامة والرئيسة فقط لضيق مجال صفحات هذه المجلة الغراء:
أولاً، التخطيط: وهذا العامل يتطلّب الالتزام اليومي أو، على الأقلّ، توفير أسباب الالتزام اليومي في توقيت فترة الاجتماع للتعبّد أمام الله في المذبح العائلي. إن هذا الالتزام يولّد "عادة" التقيّد بالوقت اليومي، باستثناء بعض الظروف القاهرة، التي لا يد للعائلة فيها، وهذا الالتزام ضرورة حتمية لأنه بطبيعته عملية تدريب روحية يتوجّب تنميتها في الحياة المسيحية والمواظبة على ممارستها.
ثانياً، التأمل في كلمة الله والتعمق في دراستها. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية في تغذية نفوسنا، ومعرفة ما هي إرادة الله في حياتنا، واكتشاف صحة مواعيده والعمل بوصاياه. فالتأمل هذا يستدعي الانتباه والتفكير، والمشاركة الفعلية لأفراد العائلة، والتوقّف عند القضايا التي تتطلب بعض الشروحات التي تسعف أفراد العائلة على السلوك اليومي في حياتهم خارج جدران بيوتهم. فكلمة الرب هي سلاح يتجنّد به الصغار والكبار مهما تقلّبت بهم الأحوال واعترضتهم العقبات.
ثالثًا، الخضوع لإرشاد الروح القدس والعمل بما يمليه علينا، ولا سيما عندما تواجهنا بعض المصاعب والضيقات ولا سيما في الأحوال التي يتعذّر علينا فيها أن ندرك نتائجها. شريطة أن نثق بأن الله هو معتمدنا وهو الذي يعرف ما هو الأفضل لنا، وعندئذ يتلقّى أبناؤنا دروسًا بليغة بالإيمان والاتكال على الآب المحب الذي لا يتخلّى عن أولاده أو يتركهم في عالم الضياع والمجهول.
رابعاً، التوقّع الدائم لاستجابة الصلاة عالمين أن الآب السماوي، بطريقة أو أخرى، سيُظهر لنا إرادته الصالحة لأنه هو ملجأنا وقوتنا في الضيقات، وما علينا إلا أن نتكل عليه وهو يجري، كما يقول صاحب المزامير. إن مواقف الوالدين في مثل هذه الظروف بما تتميز به من ثقة عميقة بالرب هي دروس رائعة في النموّ الروحي في حياة أبنائهم وبناتهم، ومثار غبطة ويقين وفرح بصدق معاملات الآب السماوي مع المؤمنين به.
ثمار خدمة المذبح العائلي
ويمكن إيجازها بالأمور التالية:
تقوية أواصر بنيان الأسرة المسيحية ونمو أفرادها.
تثبيت دعائم كيان الكنيسة المحلية بخاصة.
عمل الروح القدس في نهضة المؤمنين وانتعاش الكنيسة ككل.
جَعْل الكنيسة شهادة حية في مجتمعها ونورًا يستضيء به الآخرون.
تمجيد اسم الرب وإعلان قوة عمله في خلاص النفوس.
التدريب اليومي على مجابهة تجارب الحياة والتغلُّب عليها.
استمداد قوة الثبات على مقاومة مكائد إبليس.
أيتها العائلة المسيحية،
هل أنتِ شجرة مثمرة في عمل الرب؟
هل أنت منارة مشعة في دياجير ظلمة هذا العالم؟
وهل المذبح العائلي ما برح قائمًا في بيتك؟