قضى مُخلّصنا وفادينا يسوع ست ساعات على الصليب، وفي نهاية ثلاث ساعات الظلمة التي حلّت على الأرض كلها، أي من الساعة 3-12 بعد الظهر بتوقيتنا الحاضر، صرخ يسوع بصوت عظيم: "إلهي، إلهي! لماذا تركتني؟"
هذه هي العبارة "الرابعة" من العبارات السبعة التي نطق بها فوق الصليب.
هذه الصرخة المُرّة ليست صلاة لله، بل هي اقتباس من مزمور 22 المعروف بمزمور "المسيح المتألّم"، ومزمور "ذبيحة الخطيّة". والصرخة هي سؤال للواقفين عند الصليب آنذاك، وسؤال موجّه لنا، وكأنه يقول: هل عرفت لماذا تُرِكتُ فوق الصليب؟
فالمُعلّم وإن كان يعرف الجواب ولكنه يسأل التلاميذ وعامة الناس.
إنه سؤال لإزالة البرقع عن العيون، وبعودتنا للكتاب المقدس نجد الجواب، فتنفتح أذهاننا كباقي التلاميذ، وندرك سرّ هذه الصرخة. فمكتوب بروح النبوّة: "صار قلبي كالشمع. قد ذاب وسط أمعائي." (مزمور 14:22) وهو تعبير عن هول الدينونة التي احتملها يسوع ابن الله، نيابة عنا، وتم المكتوب: "والرب وضع عليه إثم جميعنا." (إشعياء 6:53)
كان رب المجد في أثناء ثلاث ساعات الظلمة، حاملًا خطايانا. ونحن عندما نقترب بالتأمل في صليب الجلجثة، نقف بصمت وبقلوب خاشعة، لنفسح المجال للروح القدس أن يتصفّح أمامنا النبوءات المُختصّة بآلام المسيح، فنسمع بهمس روح الله يقول لكل واحد: هل تستطيع أن تدرك ثقل الدينونة التي اجتاز بها الفادي والمُخلص الوحيد؟ إنّ يسوع ابن الله وحده يُدرك مقدار رعب الدينونة التي انصّبت عليه، ولولا الإيمان لما استطاعت عقولنا البشرية فهم هذا الحب العجيب، الذي جعل القدوس البار الذي لم يعرف خطيّة، أن يصير خطيّة (ذبيحة خطيّة) لأجلنا! فهو حامل الكون بكلمة قدرته، ولكنه حَمَلَ خطايانا ودينونتنا في جسده الطاهر فوق الصليب.
لماذا لم يردّ على المستهزئين؟
كان بقدرة المسيح أن ينزل عن الصليب ويُظهر قوته ويبطش بأعدائه، ولكنه لو فعل ذلك لكنا أشقى جميع الناس، ولَمَا تمّ عمل الفداء! فمُخلصنا المبارك لم يَردَّ على الجهال المستهزئين بالصليب، القائلين له: "انزل عن الصليب." لأنه وفقًا لخطته الأزلية كان يريد أن ينوب مكاننا، ويكمل الفداء لكي يُنقذنا نحن المُعذبين بالخطيّة!
فيسوع لم ينقذ نفسه من الصليب، لكي يكون هو مُخلّصِنا ويصنع بدم نفسه فداء وخلاصًا أبديًا.
تُرِكَ ليكون هو المذنب، لننال نحن تبريرًا كاملًا.
لقد تمت إدانة خطايانا في جسده القدوس (رومية 3:8)، لذلك في بداية رومية 8 يصدر الحُكم لكل مؤمن حقيقي: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع."
يا سيدي، قد تُركت على الصليب واحتملت الحكم الرهيب، لكي أنال عفوًا كاملاً، لذا شوق قلبي أن أتأمّل في شخصك المصلوب، لكي أحبّك وأحيا حياة البرّ وأكره الخطية.
في الساعات الثلاث الأولى، كان يسوع يقاسي آلام الصلب من يد البشر، ولكن في ثلاث ساعات الظلمة، كان كفارّة (سترًا) لخطايانا. فالخطية عار وهو احتمل عارنا وتمت النبوة: "العار قد كسر قلبي..." عار خطايانا كسر قلب يسوع، لكي يخلق فينا قلبًا جديدًا، مُطهَّرًا بدم صليبه.
تُرِك على الصليب لأنه حمل لعنة خطايانا!
الخطية تُعرّي وتخزي الإنسان، وتجعله تحت لعنة، لكن المسيح صار لعنة من أجلنا (غلاطية 13:3) لكي تكون لنا البركة.
تُرِك على الصليب وبرهن لنا حبه العجيب!
في تكوين 22 نقرأ عن إسحاق أنه كان ذبيحة محرقة، ولكن هل تُرِك إسحاق على المذبح؟ كلّا، لأن الله أشفق على إسحاق، ورحم إبراهيم، وتمّ تقديم الكبش بدلًا عنه، وكان ذلك رمزًا لحمل الله الحقيقي، وفهِمَ إبراهيم معنى فداء الله له (يوحنا 56:8).
أما يسوع، فقد ذهب للصليب طوعًا واختيارًا من أجل حبّه الشديد لنا، وكان على الصليب، أي على المذبح، قربانًا وذبيحة لله (أفسس 2:5). ويقول الكتاب: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين." (رومية 32:8) فكما كانت الذبائح توضع على مذبح المحرقة وتحترق، هكذا ربنا المعبود، احترق فوق الصليب، ليس بنار دُنيوية، بل بنيران العدل الإلهي. ليت الروح القدس يعطينا أن نتأمل بهذه النبوات: "من العلاء أرسل نارًا فسَرَت في عظامي." (مراثي إرميا 13:1) وأيضًا "عظامي مثل وقيدٍ قد يبست." (مزمور 3:102)
سيدي ومُخلّصي، لم يكن هناك شفقة في الصليب - كنت كذبيحة المحرقة - لأن محبتك وحنان قلبك أراد أن يشفق على خاطئ مثلي، تبارك اسم مجدك إلى أبد الآبدين. يا أبانا المُحب، نريد أن نقف ونتأمل في صليب ربنا يسوع، فندرك معنى الحب الأزلي الذي أحببتنا به، والابن الوحيد المُرسل كفارة لخطايانا.
الترك من أجل الرحمة والحق
من صفات الله أنه إله حق وقدوسٌ، وأيضًا رحيمٌ وغفورٌ، فعدالة الله تقتضي أن نُدان ونُطرح في جهنم، فهذا حقّ الله، ورحمته تريد أن تُبرئنا وكأننا لم نفعل خطيّة، ولكن ليس مجانًا على حساب حقّ الله وقداسته. فالخطية جعلتنا أعداء لله البار ونحتاج للمصالحة لكي ننال سلامه. لذا ارتضى القدوس يسوع من أجل محبته ومراحمه لنا أن يحمل دينونة خطايانا، فتستوفي العدالة الإلهية حقوقها، وبنفس الوقت نُرحم نحن. لذلك في الصليب تم المكتوب:
"الرحمة والحق التقيَا. البرّ والسلام تلاثما." (مزمور 10:85)
ويبقى السؤال، لماذا صرخ يسوع: إلهي، إلهي! لماذا تركتني؟ مفتوح للإجابة.
فالمستهزئون بيسوع المصلوب الذين كانوا يبصقون عليه ويشتمونه، أمثال هؤلاء ينعتهم الكتاب بالهالكين لأنهم يعتبرون الصليب جهالة وضعف. ولكن من يتضع ويؤمن بقلبه أنّ المسيح مات من أجله، تسري فيه قوة الله للخلاص، فيصبح خليقة جديدة، وهذا برهان على حقيقة قوة عمل الصليب، لأن في الصليب قوة الله وحكمة الله (1كورنثوس 18:1-31).
صلاة
مُخلّصي يسوع أشكرك لأنك لم تنزل عن الصليب وتخلص نفسك لأنك أردت أن تنقذني، حاملًا دينونة خطاياي لِتُتمّم مشيئة الآب، وبنصرة صرخت: "قد أُكمل!" وبعد ثلاثة أيام قمتَ من الموت مُعلِنًا أنك أنت المخلص الوحيد ابن الله، ومعلنًا تبريري. تستحق كل المجد والكرامة والسجود إلى الأبد، آمين.
ملاحظة هامة: الترك لا يعني أنه حدث انفصال بين أقانيم اللاهوت، فالابن لم ينفصل عن الآب، (يوحنا 29:8؛ يوحنا 32:16) ولكن الترك كما قلنا سابقًا، أنه أخذ ما نستحقه نحن من الدينونة، والعار، واللعنة، والظلمة، والغضب من أجل محبته ورحمته الكثيرة، وأعطانا ما لا نستحقه من أجل محبته ونعمته الكثيرة، بركات لا تُعَدّ ولا تُحصى من الغفران، والمجد، والبركة، والنور والسلام.