"الصداقةُ تجلِبُ السعادةَ للإنسان، وتُخفّف من بؤسِه؛ ذلك لأنّها تضاعفُ الفرح وتشاطرُ الأحزان."
هذه الكلمات هي لـ ماركوس توليوس شيشرون الكاتب الروماني المعروف، وخطيب روما المميَّز، وأحد أعظم مفكري الإمبراطورية الرومانية.
كان شيشرون خطيبًا معروفًا ومحاميًا فـذًّا وكذا سياسيًا محنّكًا. هذا بالإضافة إلى نبوغه في الكتابة وبروزه في إتقان اللغة اللاتينية الكلاسيكية. اشتُهر شيشرون بكلام الحكمة العمليَّة في كتاباته وأقواله. وهنا نجده يبدعُ في إعطاء الصداقة حقَّها في وصفه الرائع لها. إذ يدرك تمامًا المنفعة المضاعفة للصداقة بين الأشخاص، وأهميتها بين الناس في رحلة حياتهم معًا.
فعلًا، إنّ الصداقة الحقيقية تُضفي لحنًا عذبًا على حياة البشر ورونقًا جميلًا وتساعد الطَّرفين فيها على النموّ والتطوّر والتقدّم في العديد من مناحي الحياة وتحدّياتها الكثيرة. وهذا بالضبط ما حظيتُ به أنا وزوجي حين، ومن حيث لا ندري، التقينا بأشخاصٍ في أثناء خدمتنا ودرب حياتنا بطريقة لا تخطرُ على بال. وتحوّل أحد هذه اللقاءات المميز فيما بعد، إلى صداقةٍ حميمة ومعرفة صميمية، صارت تربطنا لعقودٍ من السنين بلغت أكثر من خمس وثلاثين سنة ولا زالتْ مستمرة. وما فَتئْنا نعتزّ بها وبأصحابها ونشكر الله على الفرصة الثمينة التي جمعتنا بهما. فصداقتُهما أضحت كنزًا ثمينًا في رحلة حياتنا.
إذ في أحد الأيام وبينما كنا نتكلم أنا وزوجي في إحدى الاجتماعات في شمالي كاليفورنيا، في كنيسة معروفة في The Valley Church, Cupertino وفي العام 1984، عن خدمتنا الإذاعية للعالم العربي، كانت هناك سيدة حاضرة ممن يقمن في شقق سكنية في مدينة Sunnyvale القريبة من الكنيسة. هذه المرأة أخذت نسخة عن الرسالة الإخبارية التي تحوي المزيد من المعلومات عن خدمة الإذاعة باللغة العربية، وفيها أيضًا عنواننا الشخصي ورقم الهاتف. وحين التقت بجارتها الشابة في المنطقة السكنية التي تتكلم لغة الضاد مثلنا، ناولتها الورقة قائلة: خذي اقرئي هذه الرسالة الإخبارية لزوجين يعملان في الحقل الإذاعي المسيحي وبلغتك أنتِ. اتصلي بهما علَّكما تجتمعان وتتعارفان. سُرَّتِ السيدة الآتية حديثًا وزوجها من ألاباما آنذاك، بحُكم انتقال عمل الزوج إلى السيليكون فالي في كاليفورنيا وشكرت جارتها على المبادرة القيّمة هذه بعد أن عبَّرت لها مسبقًا عن رغبتها في التعرف على أناس عرب مؤمنين في الولاية الجديدة. وما لبثت السيدة الشابة أن اتصلت بنا في أحد الأيام في سان هوزيه حيث كنا نقطن، ودعتنا لزيارتها وزوجها في شقتهما. ومن هنا بدأ تعارفُنا بعضنا لبعض. وكان لديهما آنذاك طفلان صغيران. وسرعان ما تحوّل التعارف إلى صداقة، وصداقة حميمة أصيلة على مرّ السنين والعقود عاصرنا فيها ولادة ولدين آخرَين لهذه العائلة، وكذا زواج اثنين من بين الأولاد الأربعة.
وكلَّما اجتمعنا معًا، سواء حدث في السنين الماضية أثناء خدمتنا، أو الآن بعد أن تقاعدنا، نشعر وكأنَّنا عائلة واحدة ننتمي إليهم وهم إلينا. حتى وبعد أن كبرت عائلتهم وأصبح الوالدان جدَّين لأحفاد ثلاثة لا زلنا نجتمع ونشارك معهما ما يفرحنا وما يحزننا، ما يبهجنا وما يبكينا، وما يسعدنا وما يؤلمنا. نشترك معًا في الصلاة ورفع قلوبنا أمام الله في التسبيح والشكر والحمد لله أبينا السماوي الذي جمعنا، كما ونعرض طلباتنا المشتركة لديه فنحمل أثقال بعضنا البعض. ونشعر بعد كل مشاركةٍ صادقة من القلب إلى القلب، بأنَّنا خرجنا منها أكثرَ حكمةً، وأكثر نضجًا، وأوفر معرفةً وعلْمًا. حتى ولو لم نتّفق أحيانًا بالآراء المطروحة في مواضيع معينة، إلا أنَّ المحبة التي تجمعنا وتربطنا تبقى هي الأساس والعلَمُ المرفوع في علاقتنا حاضرًا وأبدًا.
ولدينا في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة عن الصداقة إذ اعتبرَ الله أبانا إبراهيم خليلًا له يتحدَّث إليه ويخبره بما هو صانعٌ. كما نقرأ عن صداقة راعوث ونعمي، وتعلّق راعوث الحميمي بحماتها. وكذلك عن صداقة يوناثان لداود إذ كانت مثالًا وقمّةً في الإخلاص. نعم، لم يتكلم شيشرون ذاك المفكر الروماني والخطيب الشهير عن قيمة الصداقة وأهميتها فحسب، بل نطق الحكيمُ سليمان وبوحيٍ من الروح القدس في سفر الجامعة إذ قال ومنذ ثلاثة آلاف سنة تقريبًا: "اثنان خيرٌ من واحدٍ، لأنّ لهما أجرة لتعبِهما صالحة. لأنه إنْ وقع أحدهما يقيمُه رفيقه. وويلٌ لمن هو وحده إن وقع، إذ ليس ثانٍ ليقيمه." (جامعة 9:4-10) في هذا المنحى يدوِّن التفسير التطبيقي تفسيرًا معبِّرًا ليقول:
"هذه فوائد التعاون مع الآخرين، فالحياة ليست للعزلة بل للرفقة، ليست للوحدة بل للألفة. ويفضّل بعض الناس العزلة لأنهم لا يثقون في أحد. ولكننا نحن هنا على الأرض لا لخدمة أنفسنا، بل لخدمة الله والآخرين. فلا تعزل نفسك عن الآخرين، وتسير منفردًا بل اطلب الرفقة وكن عضوًا في فريق."
ربما سمعتَ البعضَ، صديقي، يقتبسون هذه الآيات في الأعراس والأفراح. ويطبِّقونها على الشخصين اللذين سيصبحان زوجين. هذا أيضًا صحيح. لأنَّ الأزواجَ هم أوّلُ الأصحاب بدايةً، وعلاقتهم فيها امتياز الصداقة الحميمة أيضًا باستمرار. لكنَّ الأزواج أيضًا هم بحاجة إلى بناء علاقة ودٍّ وصداقة خارج نطاق الزواج، مع زوجين آخرَين وهكذا دواليك. فالإنسان لا يقدر على العيش منعزلًا عن الناس، لأنَّنا لم نُخلق لنعيش في قوقعةٍ بعيدين عن غيرنا، بل خلقنا الله لكي نتعايش ونتعاطف ونتآزر ونتعاون معًا على هذه الأرض فنخلق مجتمعًا سويًّا متماسكًا قويًّا.
ليس هذا فحسب، بل وصف الحكيم سليمان مُحِبًّا مميَّزًا في سفر الأمثال بالآتي: "ولكن يوجد محبٌّ ألزقُ من الأخ." (24:18) فمَن تُراه هذا المحبُّ الألزق من الأخ؟ حين نتأمل بشخص الرب يسوع المسيح ندرك تمامًا بأنَّه هو وحده المميَّز والفريد والمحبّ الألزق من الأخ. وهو أعظم صديق صادق. أليس هو المثال الأسمى والأرفع والأرقى للصداقة الحقيقية والحميمة؟ إذ إنَّه أتى إلى عالمنا بدافع الحب والإنقاذ، وأحب تلاميذه الذين اختارهم؛ هؤلاء أحبَّهم إلى المنتهى، واعتبرهم إخوة وشركاء وخاصَّة. اختار البسطاء ومن عامَّة الناس، وكان من بينهم المنبوذ والمكروه. (متى 9:13-11) أحبَّ تلاميذه حتى وبعد أن أنكره بطرس، أحبَّ حتى مسلّمه يهوذا. أجل، هذا هو يسوع المحبّ الصديق الصدوق، الذي أحب لعازر ومرثا ومريم. أحب العشارين والخطاة وجلس بينهم وتعشّى معهم. أتى إلى عالم البشر لكي يدعوهم لصداقةٍ وقربى مميّزة وعلاقةٍ وشركة بالروح عبرَ ملكوته الروحي المغاير لملكوت البشر. ملكوت روحي يملك فيه على القلوب فيغيِّرها ويغسلها بدمه الذي سفكه على الصليب. دعا الجميع إليه ولم يفرِّق قط بين صغير وكبير، بين غني وفقير، بين فريسي وعشّار، بين يهودي وأممي. فهل تثق بهذا الصديق الودود، الفادي الذي بذل نفسه من أجلك يا صديقي؟ هو الذي قال: "ليس لأحد حبٌّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه من أجل أحبائه. أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به." (يوحنا 13:15-14)
تحضرني وأنا أكتب كلمات هذه الترنيمة المعروفة عن الصديق الذي لا مثيل له:
يا تُرى أيُّ صديقٍ مثلُ فادينا الحبيب
يحملُ الآثامَ عنَّا وكذا الهمَّ المذيب
يا لَإنعام تسامى من لَدُن ربِّ النجاة
إنَّنا نُلقي عليه كلَّ حِملٍ بالصلاة
هل صديقٌ كيسوعٍ قادر بَـرٌّ أمين
ورفيق القلب يرثي، لبلاء المؤمنين
فإذا كنا غُلِبنا من جرى حملِ الهموم
فلنصلِّ ليسوعٍ نجدِ النصر العظيم
فإذا كان وجودُ الصديق الأرضي مهمًّا في حياتنا، فكم بالحري صديقنا السماوي الذي تنازل إلى أرضنا ليكون قريبًا منا وواحدًا مثلَنا؟
هل وجدت هذا الصديق المحب الألزق من الأخ؟
وهل تتلذّذ بعشرته وتنعم بلحن حبّه الأبدي البديع؟