قال المسيح – له المجد – في عظته على الجبل: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ." (متى 24:6)
لقد أصبح المال اليوم معبود الملايين! ففي سبيله يضحي الناس بأجمل وأسمى ما في هذه الحياة، وفي هيكله يسجدون ويتعبّدون.
عرف قدماء اليونان سلطان المال فصنعوا له تمثالاً أسموه "مامون"، وضمّوه إلى قائمة آلهتهم، ووضعوه في هياكلهم، وقدموا له العبادة والسجود؛ وعرف هارون قيمة الذهب فصنع منه عجلاً مسبوكًا قال عنه الشعب القديم العاصي: "هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ... وأصعدوا محرقات وقدّموا ذبائح سلامة." (خروج 4:32 و6) وسأتحدث عن المال في ثلاث كلمات:
أولاً: سر عبادة المال
1- المال يشبع دافع السيادة
خلق الله الإنسان سيدًا حرًّا عاقلاً، وخاطبه بالكلمات: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدبّ على الأرض." (تكوين 28:1) فلما فقد الإنسان سيادته على الخليقة بالعصيان، أراد أن يشبع دافع السيادة في حياته باقتناء المال، فالمال يشبع دافع السيادة في الإنسان، فيصوّر له أنه به يقدر على كل شيء. لذا قال كاتب سفر الأمثال: "ثَرْوَةُ الْغَنِيِّ مَدِينَتُهُ الْحَصِينَةُ، وَمِثْلُ سُورٍ عَال فِي تَصَوُّرِهِ... بِتَضَرُّعَاتٍ يَتَكَلَّمُ الْفَقِيرُ، وَالْغَنِيُّ يُجَاوِبُ بِخُشُونَةٍ." (أمثال 11:18 و23) فالإنسان يتعبّد للمال ليشبع في نفسه دافع السيادة. وقديمًا، قال شاعر عربي: رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب."
2- المال يشبع دافع العبادة
الإنسان مخلوق متديّن بطبيعته، وهو لا يمكن أن يستريح إلا إذا أشبع دافع العبادة في نفسه، وهو إما أن يعبد الله الحي الحقيقي، أو يصنع لنفسه إلهًا يبخّر في هيكله، ويعبده. وكثيرون جعلوا من "المال" إلهًا لهم. إن الشخص الذي يفتح يديه للرشوة، ويبيع شرفه، ويُسكت صوت ضميره في سبيل الحصول على المال... يعبد المال!
إن الذي يضع ربحه للمال فوق عبادته لله... يعبد المال!
لما هاجر الناس إلى أميركا، أرادوا أن يبنوا بلدًا على أساس عبادة الله، وحرية الإنسان، ولاقوا في سبيل ذلك الكثير من الألم والعذاب، وحين استتبّ الأمر لأولئك الرواد صكّوا نقودهم وكتبوا عليها الشعار الجميل: "ثقتنا في الله" In God we Trust، وباركهم الرب وأغنى بلادهم، ورفع قدرهم، ولكن معظمهم اليوم قد أبدلوا الشعار القديم بشعار جديد هو "ثقتنا في الذهب." أمثال هؤلاء يعبدون المال لأنه يشبع فيهم دافع العبادة.
3- المال يشبع دافع الامتلاك
ودافع الامتلاك من الدوافع التي خلقها الله في البشر، لتدفعهم إلى السعي والعمل، وكل إنسان طبيعي في هذا الوجود يحب أن يملك شيئًا، بل يحب أن يملك كل شيء. والدوافع الإنسانية ليست شرًا في ذاتها. إنما الشر هو في وسائل إشباعها، والانحراف بها. ودافع الامتلاك يمكن أن ينحرف فيصبح طمعًا، وأنانية قتالة، وتكالبًا على الحصول على المال بكل وسيلة، شريفة كانت أم لا! لذا قال سليمان الحكيم: "مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْل." (الجامعة 10:5) فلنحذر من انحرافاتنا، ولنخترْ الرب وحده نصيبًا لنا، هذا النصيب الصالح الذي اختارته مريم أخت لعازر، التي قال عنها الرب: "فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها." (لوقا 42:10)
ثانياً: شرور محبة المال
كتب بولس الرسول لتيموثاوس قائلاً: "وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ، فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ، تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ. لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ." (1تيموثاوس 9:6-10)
نظر إلى الشجرة من أصولها فرأى "محبة المال أصل لكل الشرور." فسبب الشرور المحيطة بنا هو "محبة المال".
ثم يقول: "أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ." (2تيموثاوس 1:3-2) فما هي الشرور النابعة من محبة المال؟
1- شر الذمم الخربة
وهل هناك أشرّ من خراب الذمم؟ لقد اتسعت الذمم بسبب ما يسمونه "تضخّم النقد". واليوم يبيع الناس أجمل ما في الحياة: الشرف، والعفاف، والحب الخالص، وكل عاطفة كريمة في سبيل المال.
في سبيل المال ترك "فيلكس الوالي" بولس الرسول الجليل مقيّدًا. وعن هذا قال كاتب سفر أعمال الرسل: "وكان أيضًا يرجو أن يعطيه بولس دراهم ليطلقه." (أعمال 26:24)
وفي سبيل المال يُعوَّج القضاء، وتُعمى العيون المبصرة. لذلك أوصى الله شعبه قائلاً: "ولا تأخذ رشوة، لأن الرشوة تُعمي المبصرين، وتعوّج كلام الأبرار." (خروج 8:23)
2- شرّ الضلال عن الإيمان
"لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ." إن المال يضلّ حتى خادم الله الذي يخضع لتأثيره.
في القديم أرسل بالاق رسلاً لبلعام ليأتي ويلعن شعب الله القديم، ولكن الله وضع البركة في فم بلعام فقال: "كيف ألعن من لم يلعنه الله؟" (العدد 8:23) وأظهر بالاق لبلعام الأجرة التي سيعطيها له لو أمكنه من هزيمة شعب الله. وضلّ بلعام بسبب المال، وعلَّمَ بالاق أن يلقي معثرة للشعب القديم ليأكلوا ما ذُبح للأوثان ويزنوا حتى يغضب الله عليهم ويفنيهم. وعن هذا الضلال، كتب بطرس الرسول: "لهم قلب متدرّب في الطمع. أولاد اللعنة. قَدْ تَرَكُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، فَضَلُّوا، تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ... الَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ الإِثْمِ." (2بطرس 14:2-15)
وقال الرب وهو يخاطب ملاك الكنيسة التي في برغامس: "وَلكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّ عِنْدَكَ هُنَاكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ، الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ بَالاَقَ أَنْ يُلْقِيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ، وَيَزْنُوا." (رؤيا 14:2)
فهل ضللت والتويت في عقائدك وتعاليمك لأجل المال والربح غير الحلال؟
3- شر الأوجاع الكثيرة
"مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ." أجل، إن محبة المال أصل لأوجاع كثيرة... إنه سلاح بتّار في يد صاحبه. وهو يطعن به نفسه بأوجاع كثيرة: وجع في الجسم، ووجع في القلب، ووجع في الضمير، ووجع في العقل، ووجع في كل نواحي الحياة.
رفض أليشع أن يأخذ مالاً من نعمان السرياني لئلا يظنّ الرجل أنه اشترى الشفاء بماله الفاني، ولكن الطمع دخل قلب جيحزي غلام أليشع وأراد أن يأخذ مالاً من الرجل. "وَلَمَّا مَضَى مِنْ عِنْدِهِ مَسَافَةً مِنَ الأَرْضِ، قَالَ جِيحْزِي غُلاَمُ أَلِيشَعَ رَجُلِ اللهِ: «هُوَذَا سَيِّدِي قَدِ امْتَنَعَ عَنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَدِ نُعْمَانَ الأَرَامِيِّ هذَا مَا أَحْضَرَهُ. حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنِّي أَجْرِي وَرَاءَهُ وَآخُذُ مِنْهُ شَيْئًا». فَسَارَ جِيحْزِي وَرَاءَ نُعْمَانَ. وَلَمَّا رَآهُ نُعْمَانُ رَاكِضًا وَرَاءَهُ نَزَلَ عَنِ الْمَرْكَبَةِ لِلِقَائِهِ وَقَالَ: «أَسَلاَمٌ؟». فَقَالَ: «سَلاَمٌ. إِنَّ سَيِّدِي قَدْ أَرْسَلَنِي قَائِلاً: هُوَذَا فِي هذَا الْوَقْتِ قَدْ جَاءَ إِلَيَّ غُلاَمَانِ مِنْ جَبَلِ أَفْرَايِمَ مِنْ بَنِي الأَنْبِيَاءِ، فَأَعْطِهِمَا وَزْنَةَ فِضَّةٍ وَحُلَّتَيْ ثِيَابٍ». فَقَالَ نُعْمَانُ: «اقْبَلْ وَخُذْ وَزْنَتَيْنِ». وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، وَصَرَّ وَزْنَتَيْ فِضَّةٍ فِي كِيسَيْنِ، وَحُلَّتَيِ الثِّيَابِ، وَدَفَعَهَا لِغُلاَمَيْهِ فَحَمَلاَهَا قُدَّامَهُ. وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الأَكَمَةِ أَخَذَهَا مِنْ أَيْدِيهِمَا وَأَوْدَعَهَا فِي الْبَيْتِ وَأَطْلَقَ الرَّجُلَيْنِ فَانْطَلَقَا. وَأَمَّا هُوَ فَدَخَلَ وَوَقَفَ أَمَامَ سَيِّدِهِ.
"فَقَالَ لَهُ أَلِيشَعُ: «مِنْ أَيْنَ يَا جِيحْزِي؟» فَقَالَ: «لَمْ يَذْهَبْ عَبْدُكَ إِلَى هُنَا أَوْ هُنَاكَ». فَقَالَ لَهُ: «أَلَمْ يَذْهَبْ قَلْبِي حِينَ رَجَعَ الرَّجُلُ مِنْ مَرْكَبَتِهِ لِلِقَائِكَ؟ أَهُوَ وَقْتٌ لأَخْذِ الْفِضَّةِ وَلأَخْذِ ثِيَابٍ وَزَيْتُونٍ وَكُرُومٍ وَغَنَمٍ وَبَقَرٍ وَعَبِيدٍ وَجَوَارٍ؟ فَبَرَصُ نُعْمَانَ يَلْصَقُ بِكَ وَبِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ». فَخَرَجَ مِنْ أَمَامِهِ أَبْرَصَ كَالثَّلْجِ." (2ملوك 19:5-27)
لقد كذب جيحزي على نعمان وعلى أليشع والكذب يوجع الضمير.
وامتلأ خوفًا حين سأله أليشع، أين كان؟ والخوف يوجع القلب.
ولصق به برص نعمان السرياني وبنسله، والبرص يوجع الجسد.
(البقية في العدد القادم)