وردت في سفر إشعياء 7:25 هذه الآية: "وَيُفْنِي (الله) فِي هذَا الْجَبَلِ وَجْهَ النِّقَابِ. النِّقَابِ الَّذِي عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ." والواقع الذي لا ريب فيه أن العالم الذي نعيش فيه
هو عالم تكتنفه ظلمة دامسة تعشّش فيه الشرور والآثام، وتتوالد فيه المصائب والمآسي الإنسانية الرهيبة التي تنبئ بالدمار والهلاك.
إن الطبيعة البشرية الساقطة الخاضعة لعبودية إبليس، والتي فقدت كل قدرة على مجابهة منازع الفجور قد استسلمت بصورة مرعبة إلى تلك القوى الخفية التي ما برحت تجرّ البشرية إلى مصيرها الرهيب لأنها لم يعدْ في وسعها أن تقاوم هجمات جحافل الظلمات التي غمرت مستنقعات الخطيئة التي حجبت عنا نور الحق والحياة. وأكثر من ذلك، فإن الغارقين في دياجيرها أضحوا يؤمنون بأن عالم الظلمات هذا هو العالم الحقيقي وأن عالم النور هو حكاية من الحكايات أو أسطورة من الأساطير. ولا غرابة في ذلك، فإن الكتاب المقدس يخاطب المؤمنين على لسان رسوله بولس قائلاً: لأنكم كنتم قبلاً ظلمة..." أي كنتم أبناء ظلمة توغلون في مساربها، وتهيمون في دهاليزها، بعد أن وقعتم في حبائل الشيطان الذي يدعوه الوحي الإلهي "سلطان الظلمة." (لوقا 53:22)
لكن ما الذي يدعو الناس أن يعيشوا في الظلمات؟ في هذه الدراسة القصيرة سأقتصر فقط على ثلاث حقائق أساسية:
أولاً، أَحَبّ الناس الظلمة لأن بريق الخداع المزيّف والكلام الشيطاني المعسول قد أغراهم. ولعلّ أفضل مثل يمكننا أن نضربه في هذا الصدد هو ما ورد في سفر التكوين عندما حاك الشيطان حبائله حول حواء قائلاً لها: "أحقًّا قال الله لا تأكلا من كلِّ شجر الجنّة؟"
أثار هذا السؤال فضول حواء، وهذا في الواقع ما كان الشيطان يرمي إليه. فأجابت، وكانت صادقة في إجابتها:
"من ثمر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا."
في هذا الحوار حدث أمران خطيران:
أحدهما أن حواء أضافت شيئًا إلى نهي الله أمرًا لم يطلبه منها ولا من آدم، وهو كلمة "ولا تمسّاه".
والشيء الثاني هو تطاول الشيطان على أمر الله، عندما ادّعى أن قوله "لن تموتا"، ليس أمرًا مقضيًّا وهو بذلك يكذّب الله ويُنفي عنه الصدق. وهكذا ادّعى الشيطان أن الله كان كاذبًا في قوله. وهنا وقعت الطامة الكبرى إذ نظرت حواء آنئذ إلى الشجرة فرأتها "جيّدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهيّة للنظر." (تكوين 6:3) كانت تلك اللحظة حاسمة في مسيرة الخليقة في علاقتها مع الله. والغريب في الأمر أن هذه الشجرة كانت دائمًا على مرأى من آدم وحواء، فلم تمتدّ إليها أيديهما قط، بل أطاعا أمر الرب، إلى أن انسلّ الشيطان إلى حياتهما وأضرم فيهما شهوة الإغراء، فوقعا في أسره، وهكذا تمّ زجّهما في غياهب الظلمة مع سائر الذين انزلقوا في الغواية من ذرّيتهما.
ثانيًا، إن الذين يعيشون في الظلمة هم الذين يخشون النور. فالنور هو "الكشّاف" الذي يطرد الظلمة، ويمزّق حجابها، ويسلّط الأضواء على عناكب الخطية المتكاثرة في أعماق كل قلب. فالنور يرهبهم، ويزيل النقاب عن حقيقة كل نفسٍ التي أصابها العفن، وفاحت رائحة نتانتها، وأيٌّ من يرغب أن تتكشّف دخائله وسرائره المقيتة أمام أنظار الآخرين. إن رغباتنا وأهواءنا الخفيّة هذه قد شوّهت صورة الله فينا، ولكنها، ولسوء الحظ، جعلتنا أن نخشى الناس أكثر مما نخشى الله. ولشدّ ما نحاول أن نطوي أهواء النفس الأمّارة بالسوء عن الآخرين، ونتناسى أن الله الخالق المطّلع على كل نوايانا، وأعمالنا وأقوالنا، لا بدّ أن يواجهنا بقائمة سلوكنا وخفايا قلوبنا في يوم الدينونة. ولا شك أن انزواءنا في مجاهل الظلمات يولّد فينا شعورًا خدّاعًا لحقيقة ما، لأن الحقيقة ستسفر عن ذاتها إن آجلاً أو عاجلاً. لهذا كما قال المسيح في إنجيل يوحنا 19:3 "وأحب الناس الظلمة أكثر من النور،" مدفوعين بتلك الحوافز الوهمية التي خدعهم بها الشيطان. فالشيطان يخشى النور كما نخشاه، لهذا لا نراه، وليس في وسعنا أن نرسم تقاطيعه الجسدية، وكعادته الممالقة، لا تشهد سوى أعماله المرهبة التي تتّخذ مظاهر شتّى لاستهواء نفوسنا بطريقة أو أخرى. أجل، إن الشيطان يخشى النور، ويتلفّع دائمًا بالظلمة، على نقيض ما نراه في المسيح الذي أعلن لنا ذاته على حقيقتها، وكشف لنا عن أسرار الأبدية. قال لنا: "أنا هو نور العالم." وأشار إلى المؤمنين به هاتفًا: "أنتم نور العالم"، وهو أيضًا النور الذي "ليس فيه ظلمة البتة." (1يوحنا 5:1)
ثالثًا، إن الشيطان هو الذي أعمى أذهان قلوب الناس وأفهامهم. يشهد بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس 3:4-4 "ولكن إن كان إنجيلنا مكتومًا، فإنما هو مكتوم في الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله."
إن خطة الشيطان لم يعترها أي تغيير منذ سقوط آدم وحواء، فهو يجهد دائمًا أن يشكك الناس بالوحي المقدس، لا فرق في ذلك المؤمنين أو غير المؤمنين. والشك في معظم الأحيان هو الخطوة الأولى في العثرة الروحية والانزلاق في مهاوي الخطيئة، وليس أيسر على الشيطان أن يغري الإنسان الذي لم يدرك بعد قوة النور الحقيقي، في الانجذاب إلى مغاور الظلمة لأنه مجرّد من كل مقاومة وقدرة على التمييز. فالأعمى يعجز أن يفرّق بين النور والظلمة، وهكذا أيضًا المصاب بالعمى الروحي، فالنور والظلمة لديه على حدٍّ سواء. ومن شأن دوافعه الداخلية أن تفاقم من قناعته الذاتية بصحة موقفه من الحقيقة الضائعة التي لم يكتشفها بعد. لقد أتقن الشيطان صناعة التدجيل، والترغيب الكاذب، وخداع البصر، واستطاع أن يقتاد الكثيرين إلى الظلمات اعتقادًا منهم أن هذا هو العالم الذي يوفّر له كل مشتهيات قلبه ومباهجه، وأنه حقًا مصدر سعادته وهنائه.
ولكن الواقع يختلف كليًا عن هذه الصورة المبهرجة المزيّفة التي يوحي بها إبليس وأجناده المتجندين في خدمته. إنه عالم بؤس وشقاء وتعاسة، لأن صراع الإنسان الخاطئ مع الحياة هو صراع يدعو إلى الرثاء إذ يفتقر إلى تلك القوة الداعمة التي تمدّه بالعون والانتصار. فالشيطان بعد أن يأسر مثل هذا الإنسان ويصفّده بأغلاله، ويزجّ به في غياهب ظلمات سجونه، يتخلّى عنه ويتركه وحده يقاسي من مصيره المخيف الذي لم يكن يتوقّعه.
بيد أن هناك رجاء في الخلاص: إن الله لم ينبذ الإنسان قط بل هيّأ له سبيل النجاة من أبدية العذاب بفضل موت المسيح على الصليب إذ دفع عنّا دينونة عقابنا، وشرطه الأوحد هو قبول فدائه والإيمان الحقيقي به. لأنه ليس بأحد الخلاص، وبالتالي فإن هذه النجاة متوقّفة على التسليم الكامل، والتوبة الفعّالة. يقول إشعياء النبي: "من الذي يسلك في الظلمات ولا نور له؟ فليتّكل على اسم الرب ويستند إلى إلهه." (إشعياء 10:50)
قارئي الكريم،
تحرّر بفضل عمل المسيح الفدائي من هذا النقاب الرهيب الذي يعمي القلوب فتخلص أنت وأهل بيتك أيضًا.