"أليست ذاكرةُ الإنسان مثلَ البحر عمقًا واتساعًا؟ كأنَّها البحرُ، بل هي المحيطُ، في الثَّبات والتحوُّل.
يثبتُ المحيط لِما ينبعُ من أعماقه، ولِما يتدفَّق إليه من خارج ذاته، من البَرِّ والسماء. كذلك تثبت الذاكرة الإنسانية لما يتفتَّح لها موهبة من داخلها، وتثبتُ لما يتعلَّق بها من خارجها، فتحتضنُ أنهار الوراثة وينابيعَ الثقافة وأمطار الاختبار. الذاكرةُ بحر، بل كأنَّ بحرَ الكون ذاكرةُ إنسان يتأمل..."
كانت هذه الكلمات البليغة عبارة عن مقتطفات من مقالة أدبية وردت في كتاب جامعي تحت عنوان: صناعة الكتابة للدكتور فيكتور ألكِك والدكتور أسعد علي. تفتَّقتْ ذاكرتي يومًا على هذه الكلمات التي تشبّه ذاكرةَ الإنسان بالبحر عمقًا واتساعًا. وتعجَّبت أنَّه بعد مضي عقودٍ على قراءتي لها فهي ما زالت محفورة هناك وكأنني قرأتُها البارحة. فعلًا، ذاكرةُ الإنسان كالبحر فيها من الكنز الوفير.
ونحن حين بدأنا باستخدام الحاسوب الإلكتروني الكمبيوتر أُعجبنا جدًا بما يستطيع هذا الكمبيوتر أن يحفظ من معلومات في ذاكرته التي تسع الكثير وتُسمّى بالقرص الصلب Hard Drive. ثم ماذا عن الهاتف الذكي الذي يمكننا بواسطته أن نحصل على أية معلومة نريدها، أو نقدر أن نتكلم مع أي شخص في أيِّ مكان من العالم فنراه ويرانا، ويحصلُ كلُّ ذلك في لُحيظاتٍ من الزمن؟ وماذا عن وسائل التواصل المتاحة لنا الآن التي تحمل هي أيضًا في طياتها بحرًا من الذاكرة مليئًا بالمعلومات المنوّعة في كافة المجالات؟ خذ مثلا الفيس بوك، إذ فاجأني البارحة حين أطلَعني على ما أنتجه لي من فيديو قصير شخصي تحت عنوان: "حين تجتمعون معًا" وفيه جَمع الفيس بوك بعضًا من الصور الشخصية التي تَظهر فيها إما العائلةُ مجتمعةً معًا، أو الأصدقاء يتحدّثون، أو يقومون بعملٍ ما معًا أيضًا. لقد خصّص هذه الصور وميَّزها عن غيرها وأعطاها اسمًا جميلًا يحملُ معنىً ومغزى كبيرًا، ألا وهو الاجتماع معًا واللقاء مع الأصدقاء والأحباء، مشجعًا بذلك الناس لقضاء الوقت معًا لأنه بالفعل مميّز. فكيف عمِل الفيس بوك ذلك؟ من خلال الرجوع إلى المخزن الذي خزّن لي فيه هذه الصور القديمة على مرّ السنين الماضية. فتمَّ تصنيفُها وعرْضها بطريقةٍ جذّابة وظريفة. نعم، ومن الذاكرة الإلكترونية أخرج لنا ألبومًا خاصًا بي قيّمًا يستحق المشاهدة. وليس هذا فحسب بل أنتجَ كتبًا تحوي صفحات وصفحات من الصور منذ أن فتحتُ حسابًا معه. لكن تبقى هذه الذاكرة التي تخزِّن ما لا يمكن إحصاؤه محدودةً أمام ذاكرة البشر التي خلقها الله فينا. لماذا؟ لأنَّ الإنسان نفسه هو الذي اخترع هذا كلَّه، وليس هذا فقط بل تظلُّ هذه الذاكرة صلبةً فعلًا، لأنها مجردة من العواطف والمواقف والانفعالات التي تُخزَّن في ذاكرتنا، هذه العواطف الإنسانية العميقة التي تخزَّن مع الصور المرافِقة لكلّ حدَثٍ وكلّ قصة وكلّ رواية وكلّ لقاء وكل مشهدٍ رافقها، وكل ألم وكل فقدان وكل خوف أو رعب داهَمنا، بقي هناك أيضًا في الحفظ والصون لا تشوبه شائبة ولا تزيله نائبة.
نعم، ذاكرةُ الإنسان هي هذا البحرُ المتَّسعُ الأرجاء الذي يغمر اتساعُه واستيعابُه المساحاتِ الكبرى من كُرتِنا الأرضية، وأعماقُه امتدادٌ رائع يحتضن أسرارًا كثيرة. فَتَرانا نَنهلُ نحن منها ما نريد، ونُبقي ما لا نريد الإفصاحَ عنه هناك بعيدًا عن متناول أحد. وما أمواجُ اليمِّ وتحوّلاته سوى ذاكرتنا نحن التي تتأرجح بين الماضي والمستقبل والحاضر بينهما.
وأغلبُنا إن لم نقلْ كلنا أصدقائي نحب أن نعبَّ من ماء ذاكرتنا المفرح منها والمبهج، فنجترُّ عليه اجترارًا ونعيده على مسامع أحبائنا وأصدقائنا والمقربين منا. أما الصعب منها والمرّ فنحاول دائمًا ألاَّ نتذكَّره خوفًا من أن يعود ليؤلمَنا من جديد. كنت كذلك في السنين التي عبرت، أمَّا الآن فغالبًا ما أجدُ نفسي أسرح في هذا البحر لأعُبَّ منه ليس المفرحَ فحسب بل المحزنَ والمبكي أيضًا. لماذا؟ لأنني حينها أذكر يدَ الله الحنونة التي ترفَّقت بي وحفظتني وحرستني وقت المخاطر والأزمات والضيقات كمثلِ اختبارات الحرب الأهلية في لبنان المؤلمة. هذه لن تبرح البتة مني لأنَّني كنت أرى خلالها معيّةَ أبي السماوي لحظةً بلحظة. ويوم سقطتْ قذيفة على الطابق الثاني من بنايتنا، في جُنح الليل البهيم، فانهدم جزءٌ كبير من الطابق وقُتل أحد الشباب ذو السبعة عشر ربيعًا، بشظية شطرت قلبه وخرجت من ظهره. فكيف لي أن أنسى الحزن الذي ألمّ بأهل الحيِّ يومها، وكيف لي أن أنسى حين اجتمع الجيران في بيتنا في الطابق الأول هربًا من القصف العشوائي. نعم، ذكريات مريعة، لكنها تبقى حية إذ نعبُّها من يمِّ الذاكرة فينا مع حشرجات النفس والفؤاد وكل الانفعالات والآهات والدموع التي سُكبت آنذاك. أجلّ في خضمِّ كل ذلك سأظل أتذكَّر تلك اليد الحنونة يد الرب الحارسة ومواعيده التي بعثت فينا رجاء وأملًا بالحياة من جديد. وتحضُرني كلمات الترنيمة التي تقول:
كيف أنسى سترَكَ طول السنين
يدك الحارسة في كل حين،
وقت حزني وقت ضيقي وسطَ أمواج الحياة
صرتَ حصني ورفيقي صرتَ لي بابَ النجاة
ثم ماذا نقول يا صديقي عن أوقات المحن والأزمات والأمراض؟ وكذا أيام فقدان الأحباء، هل لنا أن ننسى ما مررنا به وربما ما نزال؟ بالطبع لا. فهذه ينبغي لنا أن نذكرها ونتذكَّرها لأنَّها أيضًا تؤكد لنا صدق مواعيد الله وأمانته التي لا يمكن لنا أن نصفَها أو ندركها بعقولنا المحدودة. فنجد أنفسنا نصلي ونقول مع يعقوب عبده: "صغيرٌ أنا عن جميعِ ألطافك وجميعِ الأمانة التي صنعتَ إلى عبدك." (تكوين 10:32)
وهنا لا بدَّ أن آتي على ذكر المزمور 103 الذي يهتف فيه النبي داود ويقول:
"باركي يا نفسي الرب: وكلُّ ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب، ولا تنسَيْ كلَّ حسناته. الذي يغفر جميع ذنوبك. الذي يشفي كل أمراضك. الذي يفدي من الحفرة حياتك..." فتذكّر أخي وأختي حسنات الرب وبركاته ونعمَه، وفوقَ كل ذلك لنتذكّر دائمًا غفرانه لذنوبنا التي رماها في أعماق البحار ولم يعدْ يذكرها فيما بعد. وأنت صديقي الذي لم تختبرْ بعد هذا الغفرانَ الأكيد، حريٌّ بك أن تتذكَّر أنَّ الربَّ يسوع المسيح هو وحده الفادي والمخلص وهو باب السماء الفريد. وفي هذا المنحى أذكرُ ما أخبرتني به مرةً خالة زوجي إذ قالت: كانت هذه الكلمات مكتوبة على باب بيتنا في حيفا، فلسطين تقول:
"يا داخلًا وخارجًا من بابنا
كن ذاكرًا ما دمتَ في هذي الحياة
أنَّ الربَّ يسوع هو بابُ السماء
وليس من بابٍ سواه للخطاة"
فاذكُرْ، وتذكّرْ، ولا تنسَ فذاكرتُكَ بحر واسع الأرجاء انهلْ منه ما شئت، لأن لديك كنوزًا ينبغي سبرُ غورها... هذه الذاكرة الطبيعية التي حباك إياها الله حافظ عليها واستبقِها، وغذِّها وأنعشها بحسنات الله ونعمه في كل الأوقات ومن دور إلى دور.