هل شعرْتَ مرةً بأنَّ كلَّ مَنْ حولَك لا يفهمونَك ولا يفقَهون ما تمرُّ به أو تجتازُ فيه من معاناةٍ في داخلِك؟ هل توصّلْتَ إلى هذه القناعة بأنَّك وحدَك في الساحة في بعض الأحيان؟
وحدكَ في ساحة المعركة، معركة الأفكار، ومعركة المشاعر، والمعركة مع كلّ ما يختلِجُ في أعماقِك؟ وهل تُراكَ نطقتَ بكلماتٍ ربَّما استغربَها البعضُ وحتى أقربُ المقرَّبين إليك حين تفوَّهْتَ بها؟ إذ قلت: ما مِن أحدٍ يفهمُ معاناتي أو يحاولُ أن يتفهّم وضعي أو يدرك قصدي؟ هل تراكَ اجتزتَ بهذه الحالات في حياتك وشعرتَ أنَّ العالمَ في وادٍ وأنتَ في وادٍ آخَر؟ أو أنَّ مَن حولَك هم في وادٍ وأنتَ في الجانبِ الآخَرِ منه؟ تُرى إزاءَ هذه الأحاسيس والمشاعر وربَّما الصِّراعات في داخلِك، ماذا فعلتَ؟ أو كيف تخطَّيتَ هذه المرحلة لتنتشلَ نفسَك منها وتتجاوزَ هذا المأزقَ المرحَلي؟
بينما هذه الأفكار تراودني شرعت كلمات هذه الترنيمة توقظ ذاكرتي وترفعني وترتقي بي إلى مَن هو أسمى وأعظم من كل مَن حولي. تقول المرنمة هذه الكلمات التي تخرج من أعماق النفس البشرية لتعبِّر من خلالها عمَّا يجري في حناياها وتنشد بلهجتها المصرية المحبَّبة:
بتفهَمني وبتحسّ بي وبتسمع كلامي اللي ما باقولهوشْ... بتحبّني وتشفَق عليّ
وأصغرْ نورْ فيَّ ما بتطفيهوشْ... أنا ليَّ مين يا يسوعْ غير قلبَك اللِّي حبِّني وبتضمُّني... وبيهمَّك أصغرْ حاجةْ بتهمِّني... أصحابي ناموا باللّيل وعينيكْ عليَّ سهرانةْ... وحتى لو كان ليلي طويلْ، تِبْعَتْ أغاني فرحانةْ...
نعم، في مرحلة شبيهة بهذه أنتَ وحدك يا الله تفهمني، وتحسُّ بي وتعرفُ ما في أعماق أعماقي، وتداويني في الوقت المعيّن ببلسَمٍ لا يضاهيه بلسَمٌ في هذا العالم. لهذا استغثْتُ بكَ فما تركتَني. لا تُخف علينا مشاهدَ أخرى عديدة نراها تحصل في الحياة من حولنا، صور حية يجتازُ بها البشر ويعيشها الناس في كل مكان على سطح الكرة الأرضية وخاصةً منذ مطلع هذه السنة سنة 2020 المميزة عن سابقاتها! مشهد أناس مصابين يخسرون المعركة بسبب فيروس الكورونا القاتل في كل يوم؟ حتى إنَّ عدد الذين لاقوا حتفَهم من جرَّاء هذا المرض الغامض، باتَ كبيرًا جدًا وما زال آخِذًا في الارتفاع! مشاهد مؤلمة للكبير والصغير والمتوسط عمرًا، لا فرق، وجميعُهم يرزحون تحت ثقل مرضٍ أصاب رئاتِهم فعملَتْ ذيفانات الكورونا فيها تخريبًا وتفتيتًا إلى أن اقتنصتْ من أجسادهم نسمةَ الحياة فتوقَّفوا عن التنفس! وكذلك، نرى البعضَ الآخر في أسرّتهم، وهم يعانقون أجهزة التنفس الاصطناعية وعيونُهم شاخصة وكأنَّها تنطق لتقول: "لا أستطيع أن أتنفّس ساعدوني أرجوكم؟" وترى نظرات الترجّي في عيونهم المسمّرةِ على الطبيب المعالِج أو الممرّضة المداوية. إزاء هذه الصور المؤلمة البائسة الواقعية التي نعيشها يوميًا، ماذا تُرانا نقول أو ماذا علينا أن نتصرّف؟
ومشاهدُ أخرى طالعتْنا أكثرُ شراسةً وأكثرُ حدَّةً في عالم مضطرب نعيش في كنَفه وتحت ظلّه! صورة لرجلٍ أسود اعتقله الشرطي الأبيض في ولاية مينيسوتا ووضع القيود في يديه ورماه على الأرض ومن ثمَّ جلس بثقله كلّه عليه واضعًا ركبتَه على رقبته. وبقي واضعًا يديه في جيبه وكأنَّه في وضعٍ مريح إلى حدِّ الاستجمام طوالَ تسع دقائق ونصف متتالية متجاهلًا بذلك صرخةَ الاستغاثة للرجل جورج فلويد الذي راح يناديه بصوت أجشّ قائلًا: لا أستطيع أن أتنفّس، لا أستطيع أن أتنفّس. بينما ثلاثة آخرون من الشرطة يراقبون زميلهم دون أن يحرّكوا ساكنًا! وحين استفاقَ الشرطي من غفوتهِ أو قلْ من "نشوتِه النرجسيَّة"، نراه وللأسف يكتشف وبعد فوات الأوان أنَّ الموقوف قد كفَّ فعلًا عن التنفس وما هي إلا دقائق حتى فارق الحياة. صورة أخرى نرى فيها ظلمَ الإنسان لأخيهِ الإنسان مع أنه رجلُ قانون وعملُه أولًا وقبل كل شيء هو تطبيق القانون! نعم، "أريد أن أتنفّس" هذه العبارة بالذات أضحت شعارًا لمظاهرات عديدة تأجّجت نارها في كل الأنحاء، وشملت أكثر من أربعين مدينة في ولايات عديدة، كما وصلت إلى بلاد كوكب الأرض بأسره. وتعود الصرخة مرة أخرى لتدوّي مطالبةً بحرية التنفّس ورفع الظلم والجوْر، وإحلالِ العدل للمظلوم والمحروم والمقهور في مجتمعاتِ القرن الحادي والعشرين وفي بلاد تتَّسم بالديمقراطية والحرية والعدالة لكل مواطنيها وأفرادها.
لا لم ننتهِ هنا، بل هناك مشهدٌ آخر أبشع جرت الأحداث فيه وتجري يوميًا وقد ظلّت تتصدَّر الصحف والإعلام وصفحات الاتصال منذ سنين وسنين حتى باتت عادية ولم تعد تحرِّك ساكنًا، لا في مجلس الأمن، ولا في الأمم المتحدة، ولا حتى في أيِّ مكان من العالم ينادي بحقوق الإنسان المهضومة والمهدورة. مشهد يومي لأطفال عُزَّل تُزهقُ أرواحُهم على أيدي جنود شرسين خلتْ قلوبهم من الرحمة والشفقة، والعالم يتفرّج ويصمت! حتى إن آخرَ ضحيةٍ كانت لأحد مرضى التوحُّد Autistic شاب في عمر الثالثة والثلاثين. كان متوجّهًا إلى مدرسته ولم يرتدعْ لأوامر الجيش المعني بالتوقُّف، خاف فركض. لكنَّ الرصاصات الثلاث سبقتْه واخترقت جسده وأردتْه قتيلًا على باب المدرسة!
وماذا نقول عن مشاهد أطفال سوريا المعذّبين والمشرّدين، الذين أصبحوا لاجئين، وجائعين في وطنهم، أو في أوطان جيرانِهم؟ هل يقدر أحدُهم على التنفُّس؟
وأخيرًا، مشهدٌ آخَر ومصدرُ الخبر فيه هو صفحة التواصل الاجتماعي، إذ ما من أحدٍ يذكره في الإعلام العام، أو ينادي بحقوق الأشخاص الذين يُقتلون على يد جماعات دينية متطرّفة بكل وحشية وإجرام. فنجدهم يُصدرون أحكامهم الجائرة على مواطنين يمارسون ديانتهم المسيحية ويعبدون الربَّ يسوع في العديد من الدول الأفريقية كان آخرها نيجيريا حيث قُتل على الأقل واحدٌ وثمانون (81) من المواطنين المسالمين. هم أيضًا يصرخون وما من معزٍّ لهم فنراهم يُقتلون بسبب إيمانهم بالمسيح الحيّ. هؤلاء جميعًا يطالبون مطلبًا واحدًا ألا وهو: نريد أن نتنفّس نرجوكم يا كبار القوم! بمعنى، يا أيتها الدول العظمى والكبرى!
صور عديدة لواقعٍ إنساني مؤلم في عالم أضحى مضطربًا إلى أبعد حدّ. وعليه فكما قال قريبي على صفحته الاجتماعية منذ أيام: "وسيَذكرُ التاريخ بأنَّ سنة 2020 هي سنة "عدم القدرة على التنفّس بامتياز..."
لكنْ إزاءَ هذه الصور جميعًا، والتي هي بعضٌ من كلّ وغيضٌ من فيض، هناك صورة أخرى نقدر أن نتكلَّم عنها أيضًا في هذا المعرِض بالذات، هي صورة لنبي معروف في القديم باسم إرميا، هذا صرخ مرةً من جرّاء حزنه على شعبه وعلى أعماله البشعة وارتداده عن الله الحي فقال: "من مفرِّجٌ عنّي الحزنَ؟ قلبي فيَّ سقيم." حتى أنَّه تساءل إذا كان الرب بعدُ موجودًا هناك! وراح يطلب علاجًا للضيق الذي يجتاز به حزنًا وأسى على الشعب المعاند فقال: "أليسَ بلَسانٌ في جلعاد؟ أم ليس هناكَ طبيب؟"
صرخةُ النبي إرميا تتردَّد اليوم أيضًا، بعد أن نرى بأمّ أعيننا الصور القاتمة والمشاهد الأليمة التي تواجهنا فنقول ونردد: "مَن مفرِّجٌ عني الحزن؟ قلبي فيَّ سقيم." (إرميا 18:8) فنسمع الجواب يرنُّ صداه في العهد الجديد حين أتى مَن يفهم الإنسان، وتنازلَ من عليائه [آخذًا صورةَ عبد، صائرًا في شبه الناس] ليشعرَ معنا ويتألم لألمِنا فأصبحَ مجرَّبًا في كل شيء مثلنا ما عدا الخطية. أجل، أتى مَن يفهمُنا ويتجاوب مع صرخة قلوبنا في أيِّ ظرف مررْنا به أو نمرُّ به. فنراه يجلس مع العشارين والخطاة، مع المضطهدين والمنبوذين والفقراء والمساكين، لماذا؟ لأنه أحبَّ الجميع ومن أجل هذا أتى. جاءنا بعهدٍ جديد يقول فيه: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى، لأنهم يتعزَّوْن. طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يُشبعون. طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون... طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدْعَوْن. طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السماوات." (متى 5)
نعم، وحده يفهمُنا جميعًا، لأنَّه صار مثلَنا. لذلك أتى لكي يحرِّر الإنسان من عبوديته للشر والخطية أولًا، ومن الأنانية التي تتملّكُه. أتى ليمنحَهُ رجاءً أكيدًا وحياةً نقية يثمر فيها ثمارًا حية هي المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والتعفف. أتى لكي يفتح أعين العمي ويمنحَهم بصيرةً روحية فيعرفوا كيف يتصرّفون بالرَّحمة والعطف والحنان والعدل والسلام. أجل هناك بلَسانٌ في جلعاد وبلسَم يداوي الجراح والمجروح، وهناك شفاءٌ من الألم ومرارة النفس. ولنكنْ نحن المؤمنين هذه الآنية الطيّعة لكي يستخدمَنا الرب نورًا وملحًا، متمثِّلين بسيّدنا في شعورنا مع الآخر ومدِّ يد العون للآخر المختلف عنا جنسًا ولونًا وعرْقًا. فلا نطلِقُ تسمياتٍ لا تليقُ وبعيدةً كلّ البعد عن روح وتعليم العهد الجديد. عندها وعندها فقط نبني جسورًا فعلًا وصداقات وعلاقات نحتوي فيها الآخر ونسنِدُ الضعيف ونرفعُ المسحوق والمقهور فنربحُ أخانا لملكوت الله، لأنه عندها سيفهم معنى الملكوت قولًا وفعلًا، ويدرك ماذا يعني مُلْكُ الرب يسوع على حياته وفي قلبه مُلْكُ رئيس السلام وهكذا يعود إلى التنفُّس من جديد.