ثقافة الحياة الجنينيّة
مع تقدُّم التكنولوجيا والعِلم الحديث، كثُرت في أيامنا المعاصرة فكرة اختيار الأفضل جينيًّا بين الأجنّة باستخدام البيوتكنولوجيا وإهمال تلك التي لا تُعتبَر قابلة للاستمرارية وللحياة.
خُذْ مثالًا على ذلك قرار المحكمة العليا الأمريكية في سنة 1973 والذي شرّع الإجهاض لأسبابٍ بيولوجية وطبّيّة بحتة. ما هو موقف المجتمع والعِلم من هذا التشريع وهذه الممارسات؟ وكيف ينظر المؤمن المسيحي إليها؟ وهل للكتاب المقدَّس دورٌ ما في النصح والإرشاد والتوجيه الصحّي؟
نلاحظ أن مفهوم الإجهاض بدأ يُمارَس في العيادات الطبّيّة تحت ستار الحفاظ على حياة المرأة وفي حالات التشوُّه الجينيّ، ثم تطوّر ليصبحَ خيارًا متاحًا لأيِّ سببٍ كان. وبموازاة هذه الثورة الطبّيّة، بدأ استخدام أساليب مختلفة في منع الحمل ضمن حملة ما عُرف بالستِّينات والسبعينيات من القرن الماضي بحقوق المرأة والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. من هذا المنطلق ومن موقعي كباحثٍ متخصِّص في العلوم الطبية، أرى أن شيوع الإجهاض كممارسة روتينية جعلت منه أحد أهمّ الوسائل في تحديد النسل وبالتالي الازدياد السكّاني المطّرد. إذ ذاك، أصبحت المرأة حرّة في اختيار فيما إذا كانت ستحتفظ بجنينها أو تُجهضه بحسب توقيتها وإرادتها، دون الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد النفسية والاجتماعية والطبّية. وإذا كان الإجهاض هذا هو أحد أوجه التغييرات الديموغرافية التي رافقت تطوُّر المجتمعات، فإنه شبيهٌ إلى حدٍّ كبير بتأثيرات العالِم داروين الدّاعي إلى اختيار الجنس الأفضل في البيئة الإنسانية وتحديد النسل من خلال الإبقاء على الأفضل والقضاء على الأضعف. قد يكون الجنين هذا المعرّض للإجهاض في كل وقتٍ الحلقة الأضعف ربما في هذه المعمعة القائمة بين مَن يطالب بحرية المرأة وقنونة أو ترشيد الممارسات الطبية المتعلّقة بالإنجاب. في كلّ الأحوال، أصبحت ممارسة الإجهاض عملًا لا يأخذ في الاعتبار قدسيّة الحياة أو يراعي المبدأ الإلهي في النعمة المعطاة والحفاظ عليها.
أرى ارتباطًا وثيقًا بين الإجهاض الروتيني وأساليب الموت الرحيم عند أولئك الذين أصيبوا بأمراضٍ لا شفاء منها. هل نُنهيَ حياة إنسانٍ ما بهذه البساطة فقط لأنه ضعيف أو عاجز أو قاصر أو مريض؟ أين قدسية الحياة ومفاعيلها وكيف نسمح بهذه الممارسات تحت شعار الحرية الشخصية؟! إنني أعتبر ودون مواربة أن هذه الأفعال إنما ترقى إلى الجريمة المنظّمة بحقّ الحياة، ولا حقّ لأحدٍ ما مهما كان متحرّرًا أو نافذًا أو مثقّفًا أن يُقرّر متى يُنهي حياة إنسانٍ آخر جنينًا كان أم كبيرًا. نُدرك آسفين أن بعض الجهات المسيحية، دينية ودنيوية على حدٍّ سواء، أخذت تتأقلم تدريجيًّا مع فكرة الإجهاض إلى حدٍّ كبير ولا سيما إذا ثبُت أن الجنين ذو تشوُّهات خُلقية في رحم الأم. فهؤلاء يعتقدون أن الإرادة الإلهية وحكمته تكمن في كمال الحياة، وإذا تأكّدنا أنها مشوّهة فيحقُّ للجهات المختصة أن تنهيها وأن تضع حدًّا لها. لهؤلاء أقول: لقد أعطانا الله نعمة الحياة كي نحافظ على قدسيّتها واستمراريتها ضمن إرادته الصالحة ولا نملك أيّ حقٍّ على الإطلاق في تحديد أطر الموت والحياة. ينبغي أن نتذكّر أنّ عطايا الله السامية إنما هي دائمًا صالحة – "كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الْأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلَا ظِلُّ دَوَرَانٍ." (يعقوب 17:1) إنّ عطية الأولاد هي نعمة إلهية بغضّ النظر عن طبيعتهم أو صحتهم الجسدية والعقلية – "هُوَذَا الْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، ثَمَرَةُ الْبَطْنِ أُجرة. كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ، هَكَذَا أَبْنَاءُ الشَّبِيبَةِ. طُوبَى لِلَّذِي مَلَأَ جَعْبَتَهُ مِنْهُمْ. لَا يَخْزَوْنَ بَلْ يُكَلِّمُونَ الْأَعْدَاءَ فِي الْبَابِ." (مزمور3:127-5) إنه لامتياز أن نُعنى بالأولاد الذين أعطانا إياهم الله، والاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصّة لشرف عظيم، إذ أن الله يعطي الحكمة والنعمة في التعامل والتواصل الحكيمين – "لِأَنِّي عَرَفْتُ الْأَفْكَارَ الَّتِي أَنَا مُفْتَكِرٌ بِهَا عَنْكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفْكَارَ سَلَامٍ لَا شَرٍّ، لِأُعْطِيَكُمْ آخِرَةً وَرَجَاءً." (إرميا 11:29) قد ينظر المجتمع إلى هؤلاء نظرة الشفقة أو اللامبالاة أحيانًا، لكنه لا يستطيع بأن يكسر تلك الإرادة في المساعدة والتغيير.
ذكرت إحدى الدّراسات الصّادرة عن جامعة كاليفورنيا سنة 2014 أهمية الفحص المخبري الجيني قبل الولادة للتأكُّد من خُلوّ الجنين من أيّ تشوّهات خُلُقية. وإذا ثبُت ذلك – أُكملت هذه الدراسة – يُصبح الإجهاض عندها مشرّعًا. ولمنع التشوّهات الجينية، ينبغي فحص الأجنّة بشكلٍ روتيني وذلك لضمان الحصول على النوع الأفضل من الحياة الفيزيولوجية. وفي دراسة أخرى مشابهة أُجريت في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية Johns Hopkins Univ. سنة 2012 تمّ الربط بين التطوّر الجيني من جهة والفحوصات الطبية الملزمة والمرافقة له وبين تطوّر المجتمعات الفردية بشكلٍ يجعل من أفرادها البيولوجيين كاملي الخُلق والصحّة، بذلك يتمُّ إزالة كل الشوائب التي تجعل من فيزيولوجيا الجسم البشري عاملًا متكاملًا في بلورة الكمال في الجنس البشري. فهؤلاء يعتبرون أنّ الهندسة البيولوجية تُساهم في خَلق وإفراز جنسٍ بشري خالٍ من الأمراض والآفات التي تُسبِّب العاهات أو الموت المبكِّر. عند التدقيق في هذه المبادئ والممارسات العلمية والطبّية المعاصرة، نرى أن أهدافها تتخطّى المنطق في التعامل مع قدسية الحياة وتنوُّعها. وإن صحّ الفكر العلمي في منع حدوث أو انتشار التشوّهات الجينية، ندرك أنه عند تكوين الحياة، لا بل قبل تكوينها أيضًا، لا سلطان للإنسان مطلقًا في أخذ القرار باستمراريتها من عدمها – عنيت بذلك تشريع الإجهاض. لا أشكُّ لحظةً في أن معرفة وضع جينات الأجنّة لهو إنجازٌ طبّيّ وعلميّ رائع ومتكامل وله فوائد طبية كثيرة، لكنّ الهندسة الجينيّة التي تستخدم الإجهاض سبيلًا في تحديد النسل قد تؤدي حتمًا إلى التدخُّل في أنظمة الحياة وسيرها المنظّم. أنا لا أدعو مطلقًا إلى العبث الجيني، بل أؤكِّد في حقِّ الإنسان في الحياة مهما كان نوعها – فهذه هي عطية الله للبشرية – "اَلسَّارِقُ لَا يَأْتِي إِلَّا لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ." (يوحنا 10:10)
في إطار التوعية والإرشاد في هذا المضمار الهام، لا بدَّ من الإجابة على عددٍ من التساؤلات:
أولًا: كيف يتفاعل المجتمع الحديث – والمحيط المسيحي بشكلٍ خاص – مع التطوّر العلمي المختصّ بالهندسة الجينية وتشوّهات الأجنّة؟
ثانيًا: ما هي القرارات التي ينبغي أخذها ضمن هذا الإطار وهل نُشرّع أو نقبل بفكرة – أو ممارسة – الإجهاض لدواعي طبّية؟
أدرك واثقًا بأهمية الإرشاد الطبي في هذا الخصوص أو ما يُعرف حاليًا بالاستشارة الجينية Genetic Counseling. فالطبيب في عيادته الاستشارية كما المؤسّسات الطبّية لها تأثيرٌ هام في ضمير الجماعة وقرارتها – من هنا أرى لها دورًا هامًّا في التوعية والإرشاد. هذا يساهم إلى حدٍّ كبير في أخذ القرار المتعلِّق بالجنين الذي ثبُت وجود تشوّهات جينية لديه. فإن دور هذه العيادات الاستشارية إنما ينحصر في تبيان الظروف المرافقة لتشوُّه الجنين، وما هي الأساليب الطبّيّة الحديثة التي غالبًا ما تُتَّبع في تقديم العناية الطبّية للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، وما هو مدى تأثير هذه الظروف على العائلة ودورها المستقبلي في تقديم العناية والتربية الصحيحة. أما إذا تخطّت هذه العيادات الاستشارية دورها هذا إلى تشجيع أو تحفيز أخذ القرار بالإجهاض، عندها تُصبح عاملًا أساسيًا في هدم الثقة التي أُوليت لها طبّيًّا ومدنيًّا، فتصبح بذلك أداةً في القتل العمد والغير مبرَّر وذلك عبر ممارسة الضغوطات والإرهاب الفكري على الأهل والعائلة. إن تشخيص الأمراض الوراثيّة لدى الأجنّة وإن كان لازمًا وضروريًا حتمًا لا يمنع دخولها كعضوٍ جديد له القيمة والكرامة في العائلة والمجتمع من بابه الواسع، بل ما يمنع وجودها وتمتُّعها بالحياة إسوةً بأي إنسانٍ آخر هو الإجهاض الذي ينظر إليه المجتمع المحافظ كجريمة منظّمة تهدف إلى إنهاء الحياة وتحديد النسل. هل تشريع الموت الرحيم – والإجهاض أحد مظاهره – عادةٌ اجتماعية طبِّيَّة فاضلة تليق بمجتمعات تدّعي التطوّر والتقدُّم العلمي، أم أنَّ المحافظة على الحياة وقيمتها إنما يرفع من شأن المجتمعات وديمومتها؟
يقول الكتاب بحقٍّ: "اَلْبِرُّ يَرْفَعُ شَأْنَ الْأُمَّةِ، وَعَارُ الشُّعُوبِ الْخَطِيَّةُ." (أمثال 34:14) وبالإجماع، فإن الإجهاض هو وصمة عار على مجتمعاتنا وفرادتها في تكريم الحياة وتقديسها.
بعد إجراء الملايين من عمليات الإجهاض المنظّم حول العالم منذ تشريعه سنة 1973، لسببٍ أو آخر، نقف لِنُعلن أننا ضدَّ هذه الممارسات، فنحن مع ثقافة الحياة.
وإليكم في الختام خلاصة هذه الدراسة:
لقد أعطانا الله الحياة كي نحافظ عليها مهما كانت، فنحن نتصرّف كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوّعة. إن الفحص الطبّيّ المبكِّر للكشف على الأجنّة قد يكون إجراءً ضروريًّا، لكن ينبغي على العيادات الاستشارية أن تقدّم المشورة العلمية والعائلية للعناية بهؤلاء الأطفال وترك الأهل يأخذون قراراتهم بخصوصها دون إكراه أو ترهيب. أضف إلى ذلك، أنه في حالة تعرُّض حياة الأم للخطر الأكيد بسبب جنينها، أثق أن حياة الأم والاهتمام بها إنما تشكّل أولويّة في الجسم الطبّي والعيادي، ونحن بدورنا ندعم فكرة الارتكاز على مبادئ الكتاب في حفظ الحياة وقدسيّتها. نحن نثق حتمًا بصدقية مواعيد الله للإنسان في الشفاء والتغيير. فما أعظم كلمة الله التي تبثُّ فينا الرجاء المبنيّ على قدرة الله وسلطانه، أن يسمح الله بظروف صعبة كتلك التي يمرّ بها الأجنّة أو الأطفال المعوّقين وعائلاتهم ممّا يجعلنا نتمسّك أكثر في شخصه المبارك، عالمين أنه هو مصدر الشفاء النفسي والروحي والجسدي! أتذكر هذه الكلمات:
"لِأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِينًا. لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا." (مزمور 13:139-16)
فيا لعظم عمل الله الكامل وعنايته وشفائه! صلاتي أن يرشد الرب كل عائلة مرتبكة بقرارات تتعلّق بالموت والحياة والإجهاض فيعطيها النعمة والصبر في التعامل المتوازن البنَّاء والحكيم.