تُعجِبُني مناظرُ الطبيعةِ الساحرة، وتروقُ ليَ الأشجارُ الباسقةُ المتأرجحةُ بعنفوانٍ ودلالٍ، ويأخذُني لونُ الحشيش الأخضر المنتشرِ كبساطٍ من السُّندسِ الرائع.
ليس هذا فحسبْ بل من خلال مِشيَتي الصَّباحية في شوارع مدينتنا، تجذِبُني أيضًا حديقةُ الورودِ المزدانةِ بألوانها الزاهية المزروعةِ على طرف مدخلِ مَستشفًى شهير قائمٍ هناك في (دوورتي) قربَ بيتِنا.
وبينما كنتُ أُسرعُ الخُطى في مِشيتي لِحَرْقِ بعض الحُريرات صباحًا، وأسيرُ بينَ طرُقات الحديقةِ الضيّقة والمتعرِّجة وأمتِّع النَّظر بورودها الجميلة المخمليَّة، وأشمُّ رائحتَها العَطِرة الفوَّاحة، إذا بي أفاجأُ برؤية بابٍ من النُّحاس الرقيق الذي يفُتَحُ في كلِّ صباحٍ مع شروقِ شمسِ كلِّ يوم.
وما لفَتَ نظَري هو الجملةُ المكتوبة عليه. فتوقّفْتُ لِلُحيظةٍ وأنا مذهولةٌ فعْلًا لِما تحملُه من كلماتٍ قوية ومؤثّرة في آنٍ واحد. وقرأتُ ما يلي: "ليس هناكَ مِنْ فائدة من شفاءِ الجسد إذا قُمنا، وخلالَ هذه العملية، بالقضاءِ على النَّفس." والقولُ الشهيرُ هذا، كما وجدْتُ حينَ بحثتُ عن المصدر، هو لأحدِ أكبرِ القادةِ القُدامى في ذلك المستشفى باسم صموئيل غولتير Samuel. H. Golter، والذي أضحى شعارَهُ الدائم فيما بعد.
هذا ما شاهدتُّهُ في المَشفى الشهير المسمَّى بـ "مدينة الأمل" City of Hope حيثُ يعالَجُ مرضى السَّرطان، ويقصِدُه بالتالي الكثيرون من كلِّ أنحاء الولايات وربَّما العالم أيضًا. فصيتُه ذائعٌ، والأطباءُ فيه مميّزون في خبرتِهم وأبحاثِهم وطريقةِ معالجتِهم. لكن، لا عجَب، فإذا ما كان هذا هو الشّعارُ المكتوب أعلاهُ "ليس الاهتمام بالجسد فحسب بل بالنفس أيضًا" فإنَّه لا بدَّ أن يفلحَ حتى ولو نسبيًا. لأنَّه فعلًا لا يمكن فصلُ الواحدِ عن الآخر فالإنسانُ وحدةٌ مركَّبة متكاملة، وتأثيرُ الواحدِ على الآخرِ تأثيرٌ طَرْدي أو مُطَّرِد. أي يزدادُ مع اشتدادِ المحنة ويخِفُّ مع انحسارِها.
وإثرَ تصفُّحي لصفحة ياهو الرياضية فوجِئْتُ مؤخّرًا بخبرِ وفاة البطلةِ العالمية لعام 2018 - لاعبةِ التزلُّج على الجليد في الأولومبيات الروسيَّةِ الأصل Ekaterina Alexandrovskaya عن عُمرٍ يناهزُ العشرين عامًا فقط. هذه اللاعبةُ التي حازتْ على بطولةٍ عالميَّة مع شريكها الأسترالي، كانتْ قد عانت من الاكتئاب النفسي إثرَ مرضِ الصَّرع الذي شُخِّصتْ به في نهاية شُباط الماضي بحسب قولِ مدرِّبها Andrei Khekalo . كانتْ قد لاقتِ البطلةُ حتفَها بعد أن ألقتْ بنفسها من نافذة في الطابق السادس. وبحسبِ ما قال التقريرُ في الإعلام الرّوسي بأنَّها تركَتْ وراءَها قُصاصةً من الورق مكتوبًا عليها: Lyublyu باللغة الروسية أي ما معناه: الحب. لقد حزَّ في نفسها أن تصبحَ المتزلِّجة الشابة العالمية التي تنْضحُ بالحياة، ضحيةَ مرضِ الصَّرع، فاكتأبتْ نفسُها إلى حدِّ أنَّها فقدتْ كلَّ حافزٍ لها في الحياة وهكذا انتحرَتْ. نعم، النفسُ تلكَ الحنايا الداخلية غيرُ المرئية والعواطفُ والأحاسيس الرقيقة لَهْيَ كالصَّدى لكلِّ ما يجري في هذا الجسد الظاهرِ الذي يحملُه الإنسان ويظهَر به للملا.
وخلال الأشهر الماضية فقط أي ومنذ أن داهَمنا فيروس الكورونا القاتل، لاقى أكثر من اثنين وخمسين شخصًا من عالم المشاهير العظام وليس العاديين، حتفَهم ولكن دون أن يدري العالم بهم. فلقد ماتوا بصمتٍ وهدوء. منهم الممثِّلون وكذا المغنّون، ومنهم مَن قضى من جرَّاء فقدانِه لباب رزقه بعد أن حلَّت الكورونا ضيفًا ثقيلَ الظلّ وغيرَ مرغوب فيه على عالمنا هذا، فحزن واكتأب هو أيضًا وقرَّر وضعَ حدٍّ لحياته. إنَّه "جوناثان برانديز" Jonathan Brandais رجلُ الأعمال. ليس هو فحسب، بل هناك مَن مات بسبب جُرعة المخدرات الكبيرة التي تناولَها مثل "ليزلي كارتر" Leslie Carter، و"ليونارد نيموي"Leonard Nimoy قضى من جرّاء التدخين المستمر الذي أهلك جسده وأدَّى به إلى الوفاة. وكثيرون من أمثالِهم يقضون في كلِّ يوم لسببٍ أو لآخر. ولكنَّ النهاية واحدة وهي الموتُ المحتَّم. أما الملياردير البرتغالي أنطونيو فييرا صاحبُ مصرِف "سانتدير" العالمي، فلقد تُوفّي متأثرًا بفيروس الكورونا. فكتبتْ ابنته في نعيِه على صفحتها: "نحن أثرياء جدًا لكنَّ أبي مات وهو يبحث عن شيء مجاني اسمُه الهواء." مات كلُّ هؤلاء بصمتٍ ودون أن يسمعَ بهِم العالمُ أو حتى يذكرَهم مثلَما ذُكِرَ مرضى السرطان في حديقة مشفى "مدينة الأمل" جانبَ بيتي. لقد تمَّ ذكرُ أسماء الكثيرين منهم على شواهدَ من الرّخام اللامع تكريمًا لهم، لا لسبب إلَّا لأنّهم كانوا قد قدَّموا من أموالهم تبرُّعاتٍ ماليةً كبيرة لذلك المشفى حتى يتابع البحث عن علاج فعّال يقضي بالتمام على هذا المرض المستعصي. فقرأتُ أسماءَ الكثيرين والكثيرات، الكبير منهم والصغير، الشاب والعجوز، كلُّها كانت محفورةً على أحجار من الرّخام (الغرانيت) على جوانب الطرق المتعرِّجة لتلك الحديقة. هناكَ كانتِ النهاية... نهايةُ الجسد الذي فقدَ الحياة. لكن، هل بالحق كانت تلك هي النهاية؟
كلَّا، ليست هي النهاية يا قارئي، لأنَّ الأمرَ سيتَّضِحُ حين نقرأ معًا كلماتِ المعلّم العظيم الشهيرة حين قال: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربحَ العالمَ كلَّه وخسرَ نفسه؟" ألا يتَّضح لنا هنا بأنَّ النفس، الدم الجاري في العروق، المشاعر في القلوب، الأفكار في الباطن، تمثِّل كلُّها شخصيةَ الإنسان؟ هذه خَسارتُها تساوي العالمَ كلَّه. لأنْ عندما يخسرُها الإنسانُ يخسرُ كلَّ شيء! فبعدَ الموت لا يقدر البتة أن يفعلَ شيئًا ليغيِّرَ مسلَكَه أو أفكارَه أو طرقَه. لهذا عليه أن يفكّر ويراجعَ حساباتِه ويتأنَّى ويتفكَّر بدعوة الربِّ يسوع المسيح الذي جاءَ إلى أرضنا وجالَ يصنعُ خيرًا وطلب من أيِّ إنسان متعبٍ مثقلٍ بهموم الحياة وبالعادات التي يرزحُ تحتها وبالخطايا التي تكبِّلُه - ومَن منّا لا يعاني - دعاهُ لكي يأتي إليه فقال: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم." (متى 28:11) وأفصح أيضًا للجمع من حوله عمَّن هو، فقال: "أنا هو خبز الحياة. من يُقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا." (يوحنا 35:6) وقال للسامرية على بئر يعقوب: "كلُّ من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد." (يوحنا 13:4-14) كما كلَّم الفريسيين قائلًا: "أنا هو نورُ العالم. من يتبعْني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نورُ الحياة." (يوحنا 12:8)
ترُى، هل أدركَ الإنسانُ هذه الدعوةَ المميَّزة عن كل سابقاتها وكلِّ اللائي تبِعْنَها؟ دعوةً للحصول على الراحة الحقيقية الأبدية، واختبار الشَّبع الحقيقي الذي يملأ القلب واللُّبَّ، فتكتفي عندئذٍ به الروح لأنَّها تكون قد تصالحتْ مع باريها خالقِها ومبدعِها؟ إنها دعوةٌ للارتواء الحقيقي، لتفيضَ الروحُ بينبوعٍ دائم لا ينتهي. تقول المرنمة اللبنانية وتنشد هذه الكلمات واصفةً فيه العالم على حقيقته بلِسان حال مبدعِها: "العالمُ جائع، وأنا خبزُ الحياة خبزُ السماء، خبزُ سلام الأرض، فخذوا عن مائدتي الخبزَ ليأكل العالم. العالم ضائع، وأنا الطريق وصوتي صوتُ الرجاء، العالم عريانْ، العالم عريانْ، والأرضُ غنيَّة لكنَّ الإنسان سرَقوا منه الثوبَ سرقوا الحب. فخذوا ثوبيَ ثوبَ الحق ليلْبِسَ العالم."
حقًا، فإلى مَن نذهب وعندَك الحياةُ. تمامًا كما أجاب بطرس التلميذُ السريعُ البديهة فقال: "إلى مَن نذهب وكلامُ الحياة الأبدية عندَك؟" إلى مَنْ نذهب ونطلب غفران خطايانا، فنختبرُ عندها فرحَ النفس والفؤاد الحقيقي والراحة والسلام، وترتقي الروح بشكلٍ مؤكّد إلى باريها هناكَ في حضن إبراهيم إذا ما داهمَها المرضُ أو الخطرُ أو أيُّ فيروس أو حتى الموتُ المفاجئ؟ ماذا ينتفع الإنسان من كلّ العالم وثروتِه وأمواله تمامًا مثلَما قالت ابنة الملياردير البرتغالي حين مات وتركَ كلَّ شيء وراءه! "نحن أثرياء، لكنَّ أبي كان يبحث عن شيء مجاني وهو الهواء." الهواء، أي الأوكسجين الذي يملأ الحويصلات الهوائية في رئتينا فينعشُها من جديد وهكذا تحيا. لماذا هذه الدعوة مميّزة؟ لأنَّها من رب الحياة ومعطيها. قال: "إني أنا حي فأنتم ستحيون." هو وحده الذي مات وقام غالبًا الموت لهذا فهو مانحُ الحياة والحياة الفضلى، بغضِّ النظر عما سيحصل مع أجسادنا الزائلة.
فهل تُقبِل إليه لأنَّه هو الخبزُ الحيّ؟ وهل تؤمن به؟ لأنَّه وحده يروي ظمأَ الروح، ويشبعُ النفسَ البشرية! ووحده لا سواه الذي يمنحك شفاءً أكيدًا من مرض الخطية!
فيقول لكَ كما قال للمفلوج: "مغفورةٌ لك خطاياك." تعال إليه لأنْ لا أحدَ سواه يمنحُ الهواء العليل بالمجَّان فتحيا إلى الأبد.