خلال سبع سنوات قضاها في السجن - حيث عانى من التعذيب الكثير - بالإضافة إلى أربع سنوات في سجن المزرعة، يروي مسيحيٌّ صينيٌّ اسمه "هاري لي" كيف تواصل مع أبيه السماوي من خلال الصلاة.
في أواخر عام ١٩٨١ استقل هاري طائرة من الصين وفي أقل من ٢٤ ساعة تمت الرحلة التي رُتّب لها منذ ٢٤ عامًا. فمنذ عام ١٩٥٧ إلى ١٩٦٧ حاول هاري مرارًا وتكرارًا أن يدخل كلية اللاهوت في هونغ كونغ لتجهيزه لخدمة البشارة المسيحية إلا أن كل طلب قدّمه جاء بالرفض. وقد وصف صحفي غربي تلك الحقبة بأنها فترة هياج متوحش من الكراهية واللاعقلانية إذ تم وضع الملايين من الناس ظلمًا في السجون وبعضهم قد قُتِل.
ولأن هاري كان من الكنيسة التي اعتبرتها الحكومة مقاومة للقواعد الإرشادية فقد أُلقي القبض عليه ثم وُضع في السجن وكان ذلك في ليلة عيد الميلاد عام ١٩٦٨. وقد تم أيضًا وضع سيدتين شابتين في السجن لمدة ١٢ سنة لأنهما دعونه للهروب معهما، وكذلك صديق دكتور سُجن ١٠ سنوات، وآخر سُجن ٨ سنوات ثم جاء دور هاري. فقد أتاه حارسان وجرّاه إلى الأمام ليواجه الحكم ويسمع التهم الموجهة إليه. حُكم عليه بالسجن ٧ سنوات مع لياليها وكانت رهيبة وجهنمية. كان الحجز انعزاليًا منفردًا مع الضرب والسخرية والافتراءات... وبدون زيارات مسموحة للأهل. ماذا سيحدث بعدئذٍ؟ ما هي الخطوة التالية؟ وهل احتمالية الموت واردة؟ إنه مغلقٌ عليه من كل صوب.
إن الآلام النفسية والجسدية التي يتعرّض لها السجناء تضطرهم مرّات كثيرة إلى وضع حدٍّ لحياتهم وكثيرًا ما فكّر أنه حينما يخرج من السجن يكون في الأربعين من عمره. هل يستطيع جسده الذي تحمّل الحرمان والتعذيب أن يتابع مسيرته بعقلانية في عالم ضيق، مؤذٍ ومتعصب؟ هذا الذي نشأ في بيئة جميلة تتّصف بالأشياء الحسنة... أصبح الآن يشاهد بقية السجناء في السجن يصرخون من العذاب ويستشيطون غضبًا على ظروفهم التي تجاوزت حدود المنطق والعقلانية.
إلا أن امتلاك هاري لتلك الثقة العميقة بالله لم تمنعه مرارًا من طرح أسئلة تدور في ذهنه مثل، هل أنتمي لله؟ هل حقًا وُلدت الولادة الثانية؟ وبدون شك، هل أنا مسيحي؟
لقد كانت الصلاة العملية دائمًا هي قوته، والحديث مع الله كان طعامه وشرابه، ومع ذلك كان عليه أن يتخلّى عن عاداته في وضعية الصلاة بالركوع قرب فراشه - ولا يمكنه أن يتحكم بذلك المكان الضيق - إذ وجد أن صلته مع الرب تكون بأي وضعية مثل الاستلقاء والهدوء وعدم الحركة. ولقد وجد أن الحديث مع الرب يمكن أن يكون في أي مكان وفي أي ظرف؛ فكثيرًا ما صلّى ليلاً مستلقيًا بعد نفخ صفّارة حرس السجن للصمت وعدم الحركة.
وكثيرًا ما كان يصلي أيضًا من أجل ناديا (خطيبته) إذ منذ أن تركت الصين لم يعد يسمع عنها شيئًا، فرسائلها توقّفت خلال الثورة الثقافية لكنه لم يتوقف عن الصلاة من أجلها. والسؤال، هل سيراها ثانيةً؟ وهل هي تعلم أين هو الآن؟ أسئلة كثيرة كانت تعذّبه نفسيًّا مثلما كان السجان يفعل بجسده.
وعودة إلى نشأته حينما كان صبيًا عمره ١٣ سنة يعيش في شنغهاي وكان عنده أصدقاء زملاء له في الصف، وفي يوم ما سمعوا عن اجتماعات إنجيلية، فذهبوا لحضورها وهناك كلَّمه الرب إذ استخدم واعظًا مرسلًا أمريكيًا، فلم يخرج إلا وقد تأثر جدًا. ولكن بعد أن أُغلقت الاجتماعات اتفق هاري وأصدقاؤه بتنظيم لقاء شركة مع الشباب مرة في الأسبوع. وفي إحدى الجلسات قُدِّمت الدعوة لطلب الرب فرفع هاري يده وكان ذلك قبل عيد ميلاده الـ ١٥ بقليل، ففتح قلبه للرب وقَبِل الرب مخلصًا شخصيًا لحياته. وفي ذلك الوقت أرسل الله له شخصًا آخر يدعى العم Bud - الذي إذ رأى أن لهؤلاء الصبيان الصغار قلوبًا ملتهبة للرب، فتح بيته لهم مرة في الأسبوع ودُعي ذلك الاجتماع بـ "الطاولة المستديرة"؛ إذ كان يأتي الصبيان بأسئلتهم ومشاكلهم ويناقشونها بحرارة... عندئذ يرجع العم Bud إلى كتاب الكتب - الكتاب المقدس - ليعطيهم الأجوبة.
إن مشاركة هاري معهم تطوّرت معه حتى في حقل القيادة وتعليم مدارس الأحد في عمر ٢٨ سنة إذ في ذلك الحين رُسم شمّاسًا في الكنيسة، وبعد ٣ سنوات قَبِلَ دعوة الرب له للتفرُّغ الكامل للخدمة. لقد قاوم بادئ ذي بدء فكرة التفرّغ الكامل لأن عنده عملًا جيدًا وأمامه مستقبلًا مشرقًا، هل سيتركه؟ ولكنه أخيرًا قال: أنا أحبك يا رب، وأعرف أنك أحببتني أولًا وإذا أردتني لهذا العمل فأنا حاضر وافتح الباب.
أما الآن فهو في السجن لسبع سنوات في زنزانة ضيقة يمكنه أن يلمس الجدارين من اليمين واليسار بكلتا يديه علمًا بأنها قد صُمّمت لشخص واحد وها نحن ٤ أشخاص فيها، فكان التناوب بيننا رأسًا وعقبًا وتبقى مسافة بسيطة لحزمة الثياب ولدلو المرحاض.
ونرى هاري الآن بفرحة خارقة وإيمان عظيم ورأس عنيد مع رقبة صلبة رغم أن الظروف لم تتغير. وكأن الرب يقول له ستفهم فيما بعد، فيرتفع قلبه وعقله عاليًا إلى فوق فيتغنى بفقرات الكتاب المقدس التي تعلَّمها مع ذكريات الكنيسة والاجتماعات التي تعطيه مزيدًا من الفرح والدفء، ويبقى ذكر جدّته ووالده... وزملائه الفرسان... وكذلك الآنسة وورد وناديا. فما وراء القضبان الثمانية قد يكون زقزقة عصفور، أو تألّق نجم، ومن خلالها يتكلم الله مع ابنه المحجوز.
أحيانًا، كان يشعر كما لو كان مستقبله يتناقص يومًا فيومًا، دون أن يتلقّى التدريب على الخدمة التي هو متعطش أن يقوم بها. ولكن أتته كلمات أيوب: "هوذا يقتلني. لا انتظر شيئًا. فقط أزكّى طريقي قدّامه." (١٥:١٣)
بعد سنواته السبع، حان الأوان لإطلاق سراح هاري، إلا أن السلطات شعرت بأنه لم يتغير. فجرّوه إلى سجن آخر ليعمل عملًا شاقًا في المزرعة ويبقى محاصرًا ومسجونًا تحت أشعة الشمس المحرقة ليكسّر حجارة في الأرض المنكوبة بالجفاف، أو إلى قاع نهر نصف متجمّد في الشتاء البارد. إلا أنه لم يتوقّف عن الصلاة والإيمان بالمعجزة الإلهية للخلاص، وبقي ٤ سنوات هناك. وفي عام ١٩٧٦ مات الرئيس [ماو] وجاء قائد جديد وأعطى أمرًا بمراجعة الحالات غير العادلة (المظلومة). وفي أحد الأيام جاء مسؤولون من هيئة المحكمة إلى السجن في المزرعة معلنين براءته وإعادة تأهيله، وقد أعيد إلى أمه في شنغهاي. وأعيدت له بطاقات الإقامة، وحصص الإعاشة، وكل ما يحتاجه، وأصبح مواطنًا في الدولة. وهذا يعني أنه يستطيع أن يصوّت وأن يطلب المغادرة مرّة أخرى.
مرة أخرى وقف هاري عند مفترق الحياة...
عندما دعاه الرب أولاً قال له: أعتقد أنني أستطيع أن أعطيك 40 سنة من الخدمة، بفضل شبابي والصحة الجيدة. ولكن هذه المرة يمكنه أن يقول فقط: "ربما لديّ 15 أو ربما 10 سنوات باقية لأخدمك ولكن لا تجعلني أقف أمامك وأنا فارغ اليدين. أريد أن أطرح أكاليلي عند قدميك.
في عام ١٩٨٤ تخرّج هاري من الكلية الإنجيلية الغربية في بورتلاند - أوريغون بشهادة ماجستير في اللاهوت وكان غير ممكن له أن يرجع إلى الصين، وقد مُنح حق اللجوء السياسي من حكومة الولايات المتحدة.
لقد خدم هاري قضية المسيح والمرسلين في الولايات المتحدة، وكندا وحول العالم.