في الرسالة إلى العبرانيين يكتب الرسول عن ثلاث فئات هم الأطفال والناضجين والمرتدّين:
المؤمنون الناضجون هم الذين لهم الحواس المدرَّبة والتذوُّق لما هو حقّ وما هو غاش. والأطفال في الإيمان يعرفون فقط المبادئ الأوليّة ولا يتقدّمون في سلوكهم ولا يتعمّقون في كلمة الله. والفئة الثالثة هم المرتدّون عن الإيمان، وقد يفهمون العقائد بدون تطبيق المعرفة الكتابية أو طلب الخلاص.
ويظلّ كلّ مؤمن حقيقي بحاجة إلى الغذاء والتعليم "عظوا أنفسكم اليوم." (13:3) أي شجِّعوا بعضكم بعضًا كلَّ يوم ما دمنا نردّد كلمة "اليوم" حتى لا تُقسّي الخطية قلبَ أحدنا أو تخدعنا بالارتداد عن الله الحيّ. وبالتالي إذا لم ننتبه أكثر إلى ما سمعنا فإننا نفوته، أي نفقد بشارة الإنجيل، والسامع يصبح ناسيًا (1:2)، وماذا سمعنا يا ترى؟
أولًا: ضرورة الخلاص (19:3)
ما هو الفرق بين الناموس والإنجيل؟
إن الله يضع أمامنا نوعين من الإعلان الإلهي: الأول، الكلمة التي تكلّم بها ملائكة - أي الناموس (الوصايا العشر). جاء الناموس على يد ملائكة بوصايا مُلزمة تتضمّن النعم والآمين، أي الحق والأمانة "وكل تعدٍّ ومعصية نال مجازاة عادلة"، فإذا كان ممنوعًا على الشعب إهمال الوحي الذي شاهدته الملائكة، فكم بالحري ممنوعًا عليهم إهمال الوحي الذي جاء بواسطة الرب يسوع المسيح، "والكلمة صار جسدًا." (يوحنا 14:1) إن احتقار أو إهمال خلاص الله في صليب المسيح يؤدّي إلى الهلاك لأنه لا توجد بعد ذبيحة خطية أخرى "فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره؟" والله "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون." كانت بعض التعاليم المصنعة تنادي بأنه لا يمكن الاقتراب إلى الله إلا من خلال الملائكة. والصواب أن الملائكة يخضعون لسلطان الله، ويخدمون المؤمنين، ويحرسون الضعفاء، وينشرون رسالة الله، وينفذّون قضاء الله، ولا يجوز الصلاة لهم. إن خلاص الشعب القديم من مصر بدم الكفارة رمز لخلاصنا من العالم، وخلاصهم من البرية رمز لخلاصنا من الجسد وكلاهما يتِمّان هنا. أما حروب أرض كنعان فرمز لحروب الشيطان معنا وهذه تستمر إلى نهاية الحياة.
ثانيًا: الدخول إلى الراحة (1:4)
هل تمتّعت بالراحة؟
إن الدخول إلى راحة الله له تاريخ طويل، ففي اليوم السادس فرغ الله من الخليقة وأكمل عمله في "اليوم السابع" مثالًا لنا. كثيرون لم يتعلّموا كيف يكملون أعمالهم كما يقول بولس: "أكملت السعي" لينتهي القلق واستهلاك الذاكرة والتمتع بالحياة الروحية والذهنية والجسدية. كذلك هناك راحة "أرض الموعد" التي فشل الشعب القديم في الحصول عليها متجوّلًا أربعين سنة تائهًا في البرية بسبب قساوة قلوبهم وعدم الطاعة والعصيان ويظلّ نداء الله للدخول إلى راحته بالإيمان. لماذا إذن فشل شعب الله في الدخول إلى راحته؟ لأنه بعد الأربعين سنة أرسلوا الجواسيس لمسح الأرض وعشرة منهم صرّحوا بجودتها لكن المشكلة تكمن في التغلّب على شعبها. الفكرة هنا لم يكن لهم الثقة في قدرة الله. إن هذه الراحة مجانية بدم الصليب وعمل الروح القدس. في الإصحاح الأول والثاني من سفر التكوين، والأيام الستة الأولى للخليقة كان للخليقة "صباح ومساء" وأما في اليوم السابع لم يكن هناك ذكر لمجيء المساء لأن راحة الله ليس لها نهاية حتى لو خسرناها نحن. صلى أحدهم هذه الصلاة قائلًا: "يا رب إني لك، فإن أخطأت أرجوك أن تردني، وإذا أصبت أرجوك أن تشجعني وتقويني."
ثالثًا: الاجتهاد الروحي (9:6-12)
كتب بولس يقول: "مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيِّرين، لكن غير يائسين. مضطهدين، لكن غير متروكين.مطروحين، لكن غير هالكين." (2كورنثوس 8:4-9) ما الذي جعل بولس مستمرًّا في مواجهة كل هذه الصعاب؟ إنه يذكر خمسة أشياء أولها الإيمان "آمنتُ لذلك تكلّمت"، والرجاء "سيقيمنا نحن أيضًا بيسوع"، واحتياجات الآخرين "(إن) كنا عاقلين فلكم"، ونربح حياتنا "لا نفشل"، وأخيرًا نكسب الجعالة "مجدًا أبديًّا". إن راحة الخليقة ليست متاحة لآدم وراحة كنعان امتلأت بالحروب، فما هي راحة أخرى في "يوم آخر" (مزمور 7:15-8)؟ إنها راحة المسيح "وأنا أريحكم"، وراحة الخدمة، وراحة "قد أُكمل... فوجد (لنا) فداء أبديًا." (يوحنا 30:19؛ وعبرانيين 12:9)
رأى شاب شيخًا في حالة القوة، فسأله عن سرِّ ذلك، فأراه شجرة مثمرة وقال له: لقد زرعت هذه الشجرة في وقت الشباب والآن آكل ثمرتها في الشيخوخة. لذلك "تمّموا خلاصكم" أي نفّذوا وأقيموا البرهان على خلاصكم والله "يعمل في داخلكم" من أجل المسرَّة.
رابعًا: التمسك بالإقرار (14:4)
هناك أمور عسرة التفسير لا يفهمها بطيء الفهم أو عديم الخبرة. لنتأمل معًا في لاويين 51:14-53 عن الإناء الفخاري والعصفورين والماء الحيّ، ألا ترى هنا في شريعة الأبرص إعلانًا إلهيًا للتجسّد والقيامة؟ إن العصفورين اللّذَين يقدِّمهما الأبرص بنفسه ليسا المذكورين في الأعداد السبعة الأولى للتطهير، ولا تلك التي يقدّمهما الفقير. إنهما ليسا من الأرض ويمثّلان الموت في الناسوت، والماء الحيّ رمز للروح الأزلي، والإناء المكسور يؤكّد حقيقة الموت والصلب. وهنا ندرك اتّحاد اللاهوت بالناسوت (مزمور 102)، والعصفور الآخر أُطلق إلى الفضاء لأن المسيح قام وصعد إلى السماء "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه." أما خشب الأرز والقرمز والزوفا فإنها ترتبط بالموت والفداء "بدمه غفران الخطايا". وإذ لنا "رئيس كهنة عظيم يسوع المسيح ابن الله" فإنه يجب أن نحرص على الاعتراف به (أو الإقرار به) ربًّا ومخلِّصًا قادرًا على أن يعين المجرَّبين وبه ندخل إلى الراحة الأبدية. إن عهد الله مع إبراهيم تضمَّن المواعيد بدم الحيوانات، ويشقّ الحيوان ثم يمرّ المتعاقدون بينهما (تكوين 15، إرميا 14، رومية 4:9) أما في العهد الجديد فقد تمّ بدم المسيح والاتحاد به (متى 28:26). لذلك الموعد والإنجيل لهما معنى واحد إن تمسّكنا به للنهاية.
خامسًا: التقدّم إلى الكمال (1:6)
ما هو الارتداد في الكتاب المقدس؟ المرتدّون هم قوم يسمعون الإنجيل ويعترفون زورًا أنهم مسيحيّون ثم يتخلّون عن اعتراف الإيمان ويرفضون المسيح. أما خطية المؤمن أنه يسمع الإنجيل لكن لا يفعل شيئًا تجاهه، وعليه فإن الخطية التي لا تغتفر، ينسب مرتكبوها معجزات الرب يسوع إلى رئيس الشياطين تجديفًا كأن روح الله كان الشيطان نفسه. هنا بولس يقول: "امتحنوا أنفسكم"، فإن المؤمن الحقيقي يشبه الأرض التي شربت المطر وأنتجت عشبًا حقيقيًّا أما المرتدّ فهو كالأرض التي تنتج شوكًا وحسكًا ونهايتها الحريق.
وإذ نقترب إلى عبرانيين 6، يلزمنا أن نترك بداءة المسيح عن طقوس الذبائح الحيوانية، وإبطال الوصية السابقة الخاصة بنظام الذبائح لأن الأعمال الميتة التي تقود إلى الموت والاستنارة أي المعرفة النظرية والتذوّق عند سماع كلمة الله الصالحة بدون قبولها قلبيًا لا يفيد. إن كلمة الله حية وفعالة لمن يضع ضميره وقلبه تحت تأثيرها عندما تكشف شهوات النفس الخفيّة، وأسباب العصيان، وسرائر الفكر، والدوافع الخفيّة. كما إن التقدُّم إلى الكمال ليس التقدُّم نحو النضج، بل لا بدّ من العمل الإلهي في القلب، والميلاد الثاني هو الحصانة ضدّ الارتداد. لنتقدّم تاركين الأساس العقائدي - لا أن نهمله - والأركان الضعيفة (الخطايا السالفة) بلا رجوع (كولوسي 2:3)، والتحرّر من وصاية آخرين (طقوس الناموس وغسلات الذبائح) لنربح المسيح.
قال بيللي ﭽراهام مرة:
"منذ عدة سنوات كنت أعظ في دلاس لأربعين ألف نسمة ولم يتقدّم أحد لطلب الخلاص، وإذا بقديس يحتضني بذراعيه ويقول: أنت لم تعظْ عن الصليب الليلة، وبكيت مصمّمًا ألّا أعظ عن غير الصليب."
لما أرى الدم...
لما أرى الدم...
لما أرى الدم،
أعبر... أعبرُ عنكُمُ