تساؤل ثالث طرحناه في حلقة سابقة بعنوان "حوار مفتوح" يقول:
لماذا تميّز المسيح دون غيره بهذا الكم الهائل من المعجزات؟
ويُلاحظ أن مُعجزاته تتميز بأنها لا تختصّ بغير الله... فهو أحيا الموتى، وشفى أمراضًا مستعصية لا علاج لها كالعمى، والبرص، والخرس، والصمم.
ومشى على الماء وكأنها من رخام تحت رجليه، في وقت هاج فيه البحر على سفينة تلاميذه (الحواريين) وكانوا قد سبقوه إلى الطرف الآخر من البُحيرة. وفي الهزيع الرابع من الليل لحق بهم ماشيًا بقدميه على البحر. وبينما هم يُبحرون أحسّوا بخيال يلوح بالقرب منهم وسط الظلام، فاضطربوا وصرخوا من الخوف فخاطبهم قائلًا: "تشجّعوا، أنا هو، لا تخافوا!" (متى أصحاح 14)
ولما وصل إليهم ودخل السفينة، سكنت الريح وهدأ البحر على الفور، وكأن شيئًا لم يكن. فوجدوا أنفسهم أمام مُعجزة تفوق الخيال، وشعروا أنهم أمام رب مُقتدر لا يعجز عليه أمر. فاقتربوا منه وسجدوا له!
ومن بين مُعجزاته أنه انتهر الأرواح الشريرة في أجساد من استولت عليهم، فخضعت لسلطانه وولّت هاربة. مُعجزاته لا حدود لها، وكل نواميس الطبيعة تخضع لأمره، وفي كل مرة كان يقول للشيء كن فيكون. لا يعسر عليه أمر!
نحن هنا فيما نعرضه لا نتحدّى أحدًا، إنما نتحدّث عن حقائق نُخاطب بها ضمير الباحث ونتساءل معه: ما وراء كل هذا العجب، ومن ترى يكون هذا الذي تخضع لسلطانه دون غيره جميع نواميس الطبيعة فلا يعجز عليه أمر؟!
ونتساءل بدورنا مع الباحث فنقول:
لما لا نواجه الحقيقة بصراحة وانفتاح؟ الحقيقة التي نتحدث عنها هنا، ميزتها أنها تتعلّق بأبدية الباحث، فإن أهملها خسر وندم، فهي ليست مجرد استطلاع معلومات فيما هو صح أو خطأ، إنما الأمر يتعلق بالمصير الأبدي لمن يرغب الوصول إلى الحقيقة.
يُطلعنا إنجيل يوحنا في الأصحاح العاشر بأن يسوع نزل إلى الأغوار حيث كان يوحنا المعمدان يُعمِّد، وصرف هناك مع تلاميذه بعض الوقت. فخلال فترة غيابه عن منطقة أورشليم، مرض لعازر، صديق ليسوع يحبه... ولما اشتدّ المرض عليه، أرسلت أختاه مرثا ومريم تخبران يسوع أن لعازر الذي تحبه مريض، على أمل أن يأتي سريعًا ليشفيه.
سمع يسوع الخبر، ومكث يومين إضافيين في المكان حيث هو... بعدها قال لتلاميذه: هلمّ نذهب إلى (أورشليم). فقالوا: كيف تذهب إلى هناك واليهود يطلبون أن يرجموك؟! فرد عليهم: من يمشي في النهار لا يعثر كمن يمشي في الليل. ثم قال: لعازر حبيبنا قد نام، وأنا أذهب لأوقظه. فقالوا: إن كان قد نام سيُشفى... لم يدركوا أنه يتحدث عن موته... ثم عاد وقال علانية: "لعازر مات." وبدأوا برحلة العودة.
يُلاحظ هنا أن الصعود مشيا على الأقدام من مُنهبط منطقة الأغوار التي تكاد تكون تحت مستوى سطح البحر، إلى أورشليم المرتفعة بين الجبال، فذلك قد يستغرق يومًا كاملًا.
أخيرًا وصل يسوع وتلاميذه إلى بيت عنيا شرق أورشليم بكيلومترين أو ثلاثة، وكان للميت حينها أربعة أيام في قبره. فقالت مرثا ليسوع: "لو كنت ههنا لم يمت أخي"! فقال: "سيقوم أخوكِ." قالت: "أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة، في اليوم الأخير." فقال: "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا."
وبعد نقاش مع أختَيْ لعازر وقف يسوع أمام القبر. وهو مغارة محفورة في الصخر، وباب القبر مغلق بحجر كبير، وجمهور من الحضور يقفون صامتين يراقبون المشهد بكل تهيُّب.
فقال لهم يسوع: "ارفعوا الحجر." فاعترضت مرثا وقالت: "يا سيد قد أنتن، لأن له أربعة أيام." "قال لها يسوع: [ألم أقلْ لك: إن آمنت ترين مجد الله؟]"
وبعد أن رفعوا الحجر اتّجه يسوع إلى القبر وخاطب الميت وناداه باسمه بصوت جهوري قائلا: "لعازر، هلم خارجًا!"
وساد صمت مُطبق. وبعد لحظات بدا وكأن حركة غير عادية تلوح في داخل عتمة القبر والناس يُحدقون بذهول!... وبعد ثوانٍ إذا بشبحٍ أبيض ملفوف بالقماش يخرج ببطء في ضوء الشمس، وتبيَّن للحضور أنه هو لعازر الذي شاركوا بدفنه قبل أيام.
فخرج الميت أمام عيونهم ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة، ووجهه ملفوف بمنديل كعادة اليهود في دفن موتاهم. فقال يسوع لمن حوله: "حلّوه ودعوه يذهب."
فسجل إنجيل يوحنا في الأصحاح 11 أن كثيرين من اليهود الذين جاءوا إلى مريم ليعزّوها وشاهدوا ما فعل يسوع آمنوا به.
جدير بالذكر أن بيت عنيا ما زالت قائمة حتى اليوم بين قرى فلسطين... ومن وقتها تغير اسمها من "بيت عنيا" إلى "العيزرية" إحياءً لذكرى قيامة لعازر. والقبر كذلك ما زال موجودًا كمعلَمٍ أثري يزوره الحجيج من كل شعوب الأرض، يستذكرون فيه أحداث المعجزة. ولا عجب: فالحجارة تتكلم وتشهد عن عظمة صانعها.