هناك تساؤل رابع قد لا يخطر على بال من عرف وأدرك هوية المسيح، إنما نعرضه هنا للتحاور مع من يهمه الأمر لعلنا نصل وإياه إلى كلمة سواء لتتكشف الحقيقة
وينجلي الغموض ويزول الإبهام ... والحوار الذي نشير إليه يمكن أن يكون ذاتيًا بين الفرد ونفسه بشفافية ووضوح، بعيدًا عن مداخلات الغير إذ أن القضية مع ما سبق من تساؤلات وردت تحت عنوان "من هو هذا؟" كلها لها علاقة بالمصير الأبدي للفرد، لا نقدمها للتسلية أو لمجرد جمع المعلومات.
يقول التساؤل: "لماذا عاش المسيح طيلة حياته على الأرض دون أن يتزوّج، ويمتلك بيتًا أو عقارًا يسكنه مثل غيره من الناس؟!
فنقول: لو كان المسيح مجرّد إنسان نبيّ كما يحسبه البعض، ما الذي كان يمنعه من الزواج وتكوين عائلة مثل غيره؟
طبعًا، إن الأنبياء لم يُحرموا من الزواج، ولم يُستثنوا من امتلاك ما يحتاجونه من بيوت أو أملاك أو عقارات يأْوون إليها، يستثمرونها ويعتاشون منها كغيرهم من مواطنيهم. بل إن بعضًا من الأنبياء تزوّج بأكثر من امرأة، وآخرون احتفظوا بأكثر من زوجة في آن واحد.
وهناك أنبياء لهم شهرة فائقة كأيوب وإبراهيم وإسحق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم، كانوا أغنياء كبار، امتلكوا ما لا يُحصى من أملاك وأغنام ومواشي، تصل إلى عشرات الألوف، باركهم الله بها، وكانوا بما ملكوا بركة للآخرين... فماذا كان يمنع المسيح من أن يكون مثل هؤلاء فيكون له زوجة وعائلة وبيت سكن وأملاك؟
ثم إن المسيح لم يدعُ يومًا إلى العزوبة أو العزوف عن الزواج، بل هو نفسه بارك الزواج وقدسّه وقدّم مثالًا طيِّبًا بحضوره عرسًا في قانا الجليل، وشارك فيه بتقديم الضيافة للمحتفلين حيث صنع هناك أولى معجزاته.
وفي خطابه المعروف بـ "العظة على الجبل" تحدّث عن طهارة المسلك بين الرجال والنساء فقال: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء (أهل التوراة) لا تزنِ، وأما أنا فأقول لكم من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها بقلبه."
وحفاظًا منه على قدسيّة الحياة الزوجية وديمومتها بطُهرٍ واتِّزان، نهى عن الطلاق لأي خلاف ينشأ بين الزوجين، إلا في حال الخيانة الزوجية، فالزواج في نظر المسيح كان في قائمة اهتماماته... ومع ذلك فهو لم يتزوَّج ولم يمتلك إرثًا أو بيتًا يسكنه، وبقي كذلك طيلة حياته على الأرض... مما يدعو للتساؤل: ماذا وراء ذلك؟
جاء أحدهم يومًا إلى المسيح وعرض عليه أمنية تاق لتحقيقها فقال: يا سيد اسمح لي أن أرافقك، فأتبعك أينما تمضي... فرد عليه بقوله:
"للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان (مشيرًا إلى نفسه) فليس له أين يسند رأسه."
وهذه حقيقة تميَّز بها المسيح، فهو لم يمتلك بيتًا أو إرثًا، ولم يكن له زوجة يشكّل بها عائلة مثل غيره. أما الأنبياء، فيتزوَّجون ويُزوِّجون ويُنجبون الأطفال ويُربونهم، ويكبرون معهم ويتقدمون بالعمر، ثم تنتهي أعمارهم ويموتون ويُدفنون... فهم من آدم... وآدم من تراب... والترابيون غير مُخلدين، يعيشون في الأرض ما منحهم الله من عمر، ويرقدون في قبورهم في سكوت إلى يوم القيامة لمواجهة الحساب!
وكما قال الشاعر:
وكل أمرئ وإن طالت سلامتُهُ
يومًا على آلة حدباء محمولُ
لكن هذا لا ينطبق على المسيح... فالمسيح لم ينبت من تربة الأرض ليستقرّ في التراب جثة هامدة كباقي الناس، وهو لم يكن من طينة الأرض التي يتزوج فيها رجل من امرأة... فهو كلمة الله نما جسدًا في أحشاء عذراء طهور لم يمسسها رجل، وعاش، ونادى، وعلّم، وصنع ما صنع من مُعجزات، بانتظار الوصول إلى الصليب. إن الغاية القصوى التي جاء من أجلها ليفدي البشرية من لعنة أصابت ذرية آدم يوم سقط آدم بمعصية الله، فصُلب ومات بجسده الذي ظهر به، ودُفن، وفي اليوم الثالث قام من الموت بقدرة ذاتية، لم يقمه أحد. ونفض عنه غُبار الموت. وبعد أن تمم ما جاء من أجله صعد إلى السماء، المكان الذي جاء منه تاركًا وراءه قبرًا فارغًا مُشرّعُ الأبواب (ها هو في كنيسة القيامة في القدس) القبر مفتوح على غير عادة قبور الناس وصخرة نظيفة لا جثة فيها ولا عظام، فالقبر يشهد للداني والقاصي أن صاحب القبر ليس فيه، لقد قام ورحل، ولم يعد من سُكان مدينة الأموات.
فالسؤال الآن: أكائن إلهيٌّ يمتلك كل هذا المجد والجلال يمكن أن ينزل لمستوى الزواج كأهل الدنيا؟!
يوحنا المعمدان (يحيى لدى المسلمين) نبي فاضل هو آخر أنبياء التوراة، وكان يعرف من هو المسيح ولماذا جاء. نتوقف عنده للحظات وهو يدلي بشهادة يوضح بها حقيقة من هو المسيح. جاء إليه تلاميذه يومًا يتساءلون بحيرة فقالوا: إن المسيح الذي أخبرتنا عنه، اكتسح البلاد وأصبح أكثر شهرة منك! فطمأنهم قائلًا: "ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص. الذي يأتي من فوق (من السماء) هو فوق الجميع، والذي من الأرض (أمثالي وأمثال غيري) هو أرضيٌّ، ومن الأرض يتكلم." وجاء إلى يوحنا آخرون من اليهود وسألوه: قل لنا، من أنت؟ هل أنت المسيح؟ ... فرد عليهم قائلًا: "أنا لست مستحقًّا أن أحلّ سيور حذائه."
وفي مشهد آخر جاءت جماعة من اليهود إلى المسيح نفسه ودخلوا في جدال، وقالوا: "ألعلّك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات؟ ... من تجعل نفسك؟" فردّ قائلًا: "أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفرح. فقال له اليهود: [ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟] قال لهم يسوع: [الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.]"
فسؤالنا في الختام: من ترى يكون هذا الكائن الذي كان قبل إبراهيم، بينما هو يتحدّث معهم! من لا يقبل هذه الحقيقة يعلّقها على شماعة التحريف يبني أمام عينيه جدارًا يسدّ عليه مصادر النور، الشيء الذي لا نرغبه لأحد.