"إلى حدِّ الآن لا أستطيع أن أصُمَّ أذنيَّ عن سَماع بكاءِ أبٍ مفجوعٍ حين حصلَ الانفجارُ المشؤوم، إذ كان يصرخُ: "ساعدوني، أولادي تحتَ الأنقاض!"
ولا عن صوتِ الأم التي انسابت الدماءُ على وجهها بينما راحتْ تخبِّطُ بيديها بشكلٍ عشوائي على السيارة التي كانت أختي فيها وتقول: (أين أولادي؟) نعم، لا أستطيع أن أتخيَّلَ حجمَ ما مرَّ به هؤلاء في تلكَ اللحظة من موتِ ولدٍ، أو وجودِ ولدٍ تحت الرَّدم والأنقاض، أو ولدٍ انكسرَ في وجهه زجاجُ البيت من جرّاء الضغط الحاصل، أو آخر طارَ من مقعده، أو الولد الذي سمِعَ الصوت العالي المرعِب فلم تقدرْ أذناهُ على استيعابه! كلُّ أمٍّ وأبٍ من أولئك الذين فقدوا أولادَهم كم يا ترى قدّموا من سني حياتهم وتفانَوا في تضحياتهم للاعتناء بهم، كيما يكبروا تحتَ جناحِهم ويحُسُّوا بالأمان في بيت محاطٍ بالفرحِ والمحبة؟ أي على عكس الواقع المفاجئ تمامًا من جرَّاء هذا الانفجار!"
هذا (بما معناه) ما كتبَتْه قريبتي وهي أمٌّ لطفلين صغيرين على صفحتها معبِّرةً فيه عن مشاعرِ كلِّ أم وأب اجتازوا بتلك المحنةِ القاسية بسبب حادث انفجار مرفأ بيروت المأساوي والمدمّر. فمِنْ صميم الألم تخرجُ آهاتُ الحزنِ من حنايا الإنسان الداخلية لتعبِّرَ عمَّا يحسُّ به. فلا الأصواتُ ولا الزَّعيقُ ولا البكاءُ ولا الترجِّي ولا الاستغاثة، يمكنُ أن تُمحَى آثارُها من ذاكرة الإنسان، التي هي كالبحر بوسعِه، وأعظمُ من أكبر دماغٍ إلكتروني عصري. إنَّها الآذانُ التي وضعَها الله خالقنا فينا هي التي تسجِّل كلَّ صوت. وهي العيونُ التي انطبعتْ فيها صورُ الموت، وهي الرائحةُ الكريهةُ المتدفِّقةُ مع سُحبِ الدخان وألسنةِ النار الصاعدة إلى قبّة السماء، هذه كلُّها والأكثرُ منها بكثير صارَ مخزَّنًا في داخل كلِّ مَنِ اجتازَ بهذه المحنة الصعبة والمأساةِ الأليمة. حتى تذكَّرتُ وأنا أقرأُ مدوَّنةَ قريبتي ووصفَها للناس الذين فقدوا أولادهم، تذكَّرت الآية في سفر إرميا النبي التي تقول: "صوتٌ سُمعَ في الرامة، نوحٌ، بكاءٌ مرٌّ. راحيل تبكي على أولادِها، وتأبى أن تتعزَّى عن أولادها لأنَّهم ليسوا بموجودين." (15:31)
وكم من راحيلَ الآن تبكي على أولادها لأنَّهم ليسوا بموجودين؟ وكم من أبٍ يعلو صوتُه لينادي ابنَه أو ابنتَه تحتَ الأنقاض؟ صوتٌ مليء بالحزن وربَّما النقمةِ والغضب على هذه الأعمالِ الوحشية من حين ما بكتْ راحيل على أطفالها الذين ذُبحوا غيرةً وأنانيةً وانتقامًا بأمر من ملكٍ مجرم قاتل هو هيرودس عدوِّ الطفل يسوع المسيح وقتَ ولادته! وحتى هذا اليوم، تعود لتتكرّر في عالمنا هذا، الواقع الأليم الذي نعيشُه على هذه الأرض وإن اختلفتِ الأساليب وتعدَّدتِ الأسباب من بلدٍ إلى آخَر إلاَّ أنه واقعٌ أهوج يطالُ الكبيرَ والصغير الرجلَ والمرأة من كل الأنواع وكل الجنسيات وكلّ الألوان.
"وقالت أمٌّ أخرى من قريباتي في مدوَّنتها: "انفجارُ بيروت كان مثلَ هزَّةٍ أرضية، وإعصارٍ، وقنبلةٍ كلُّ ذلك في آنٍ واحد." صحيح هذا ما أقرَّ به الناس أجمعون. أما تقرير BBC المصوّر فلقد حكى قصصَ الناس الملوَّعين أهل الضحايا الذين قضَوا من فريقِ الإطفاء الذي أُبلغَ بأنَّ هناك حريقًا في المرفأ في أحد أهراءاتِ القمح، وبحاجة إلى إطفاء. فذهب الفريقُ الشجاع بقيادة الشاب "شربل كرم" إلى مكان الحريق، لكنَّه فوجئ بعدم تمكُّنه من التقدُّم أكثر للوصولِ إلى الأهراء إذ وقعَ الانفجارُ الأول فكانت "سَحَر" أحدُ أعضاء الفريق المنقِذ تتكلَّم مع خطيبها "جلبرت" على هاتفها الذَّكي، وما هي إلا ثوانٍ حتى سمع الخطيب "جلبرت" الانفجار الثاني يدوي والذي كان أشبهَ بقنبلة نوويّة أدَّى إلى انقطاع الاتصال بسحَر خطيبته الغالية وبالتالي صار مصير طاقم الإنقاذ غير معروف. دبَّ الرعب في قلبه وأصيبَ على أثرها بصدمةٍ نفسية حادة. وفي يوم تشييع خطيبته التي وُجِدت جثة هامدة تحت الأنقاض، ظهرَ جلبرت محمولًا على كتفِ رفيقه وهو يبكي ويتلمَّس نعش "سَحَر" عروسه التي كانت تحضِّر نفسها لزواجها منه. وحين سؤل عن شعوره قال: "لقد فقدْتُ كلَّ إحساس إزاء هذا المصاب الجسيم. فماذا أقول ولمَن أشتكي؟ سَحَر الوردة الجميلة والقوية تُقْتل بهذا الشكل؟" أمَّا قائد الفريق شربل فقد قضَى هو الآخر مع أخي زوجته تاركًا وراءه عائلتَه المنكوبة. وكذا ماتَ باقي أعضاء فريق الإطفاء الذي ظنَّ بأنَّ الحريق هو حريقُ أهراء قمحٍ ليس إلاَّ حسبما أتتِ الأوامر! ولم يذكر لهم أحدٌ من السلطات بأن هناك موادًا متفجّرة سريعة الاشتعال إلى جانب أهراءات القمح المشتعلة! ثم ماذا عن الشاب "جو" في ريعان الصبا والطالب في الجامعة، الذي بقي حيًا تحت الأنقاض مدةَ ثلاثة أيام وهو مجروحٌ وينزف، ولم يتمّْ رفعُ الأنقاض عنه بسبب حلولِ الظلام وعدم السماح بإكمال أعمال الإنقاذ! فماتَ بعد أن صارع ليبقى على قيدِ الحياة! هذه جريمة أخرى بحدّ ذاتها.
ويرى الإنسانُ نفسَه عاجزًا عن كلمةِ عزاءٍ وسلوان في هذا الوقتِ العصيب والمحنة القاسية، وما من شيء يقدر على فعله سوى النَّظر إلى العلاء. نعم، وأقول إلى السماء حيثُ خالقُ الكون وصانعُ الإنسان، الذي وحدَه عندَه العزاءُ الحقيقي والبلسمُ الشافي لجروحِ القلب وانسحاق الروح. يقول صاحب المزمور 94 مطالبًا الله: "يا إلهَ النَّقمات يا ربّ، يا إلهَ النقمات، أشرِقْ. ارتفعْ يا ديَّان الأرض. جازِ صنيعَ المستكبرين... ويقولون: "الربُّ لا يبصرُ، وإلهُ يعقوبَ لا يلاحِظ..." فيأتي جواب الله: "الغارسُ الأذنِ ألا يسمعُ؟ الصانعُ العينِ ألا يبصر؟ المؤدِّبُ الأمم ألا يبكِّت؟" ثم يعود ليقول وعن اختبار حقيقي: "لولا أنَّ الرب معيني، لَسَكنَتْ نفسي سريعًا أرضَ السكوت. إذ قلتُ: [قد زلّت قدَمي] فرحمتُك يا ربُّ تعضُدني. عندَ كثرةِ همومي في داخلي تعزياتُك تلذِّذ نفسي." وختم قوله: "فكانَ الربُّ لي صَرْحًا، وإلهي صخرةَ ملجأي." (مزمور 94)
فإزاءَ ما نراهُ يحصل اليوم في عالم البشر، حريٌّ بنا أن نرفعَ رؤوسَنا إلى فوق، إلى العلاء، إلى السَّماء، "لأنَّ نجاتَنا تقترب". فالأملُ والرجاءُ والإيمانُ والثقة بإلهِنا الرَّحيم الذي يَرى كلَّ شيء ويسمعُ كلَّ شيء، هذه كلُّها هي بمثابة الزَّخم والدافع التي تبعَثُ فينا حبّ الاستمرارية في ظلِّ أوضاعٍ أليمةٍ وواقعٍ قاسٍ. وهنا أذكرُ ما قرأتُه مرةً قولًا لأحدهم: "لن تكبرَ دونَ أن تتألّم، ولن تتعلَّم دونَ أن تخطئَ، ولن تنجحَ دونَ أن تفشل."
وما هذه الظروفُ التي يمرُّ بها الإنسانُ والتي يقف أمامها عاجزًا، إلا أوديةٌ في حياته يجتازُ بها ليعودَ ويخرُجَ منها أكثر قوةً، وأكثر عزمًا وأكثر إصرارًا، وهكذا يعود إلى التحليق من جديد إلى القمم. ولكن، ليس بقوته هو، بل بقوة سامعِ الصلاة الربِّ الحنَّان والرحيم. لهذا يقول: "طوبى للشعب الذي الربُّ إلهه." (مزمور 15:144) نعم، هو الرب الإله، الذي صار لصاحبِ المزمور 94 صرْحًا، وصخرةً وملجأ. صرحًا شامخًا (أي المكان المرتفع، والقصر العالي). فلنرْفعْ رؤوسَنا إلى هذا الصَّرحِ العالي الذي من غيرِ الممكن أن يردَّنا خائبين. فهل نأتي إليه لنختبرَ حنانَه ومحبَّته وعطفَه بكلِّ انكسارٍ وتواضع ونطلبُ منه الرحمةَ والغفران ونعود إلى حضنِه الدفيء الذي يمتازُ بالسلام والاطمئنان الحقيقيين؟
ختمَت قريبتي الأم الشابة كلماتِها الوجدانية فقالتْ تخاطب طفلَها ذا الشهور الثلاثة واسمُه غدي: "لا أعلمُ ما تخبِّئُه لكَ الأيامُ يا صغيري، لكنَّني أعرف أنَّ اليومَ أي الحاضر هو ليَ الآن، لكي أحبَّك فيه. والشيءُ الوحيد الأكيد، على الرغم من كلّ ما يمكن أن يحدُث، ومهما كانَ مرًّا، أو أليمًا، هو أنَّ أبي السماوي هو معنا فيه يا صغيري."
أجل، فمِن وسطِ الألم تتفتَّحُ براعمُ الأمل، وكلماتٌ منبعثة من القلب لكي نوجِّه أنظارَنا جميعًا إلى الله خالقِنا ونافخ نسمة الحياة فينا، لكي نحيا له، ونكونَ معه في شركة دائمة وعلاقة حميمة تمامًا كعلاقة الأب بابنه. فهل تأتي بالإيمان إلى الله على أساس عمل المسيح الكفَّاري على الصليب من أجلك وأجلي؟ لأنّه مكتوب: "الَّذي يؤمن بالابن له حياةٌ أبدية." (يوحنا 36:3) فهل تثق بكلمته ووعدِه لك؟ نعم، كل من يؤمن بالابن!
لم أجدْ أفضل من هذه الكلمات المفعمة بالأملِ والرجاء لأنهيَ فيها حديثي هذا عن ألمِ الإنسان العميق في ظلِّ أحداثٍ جسيمة مروّعة تعرَّض لها وما زال يتعرَّضُ لها في أصقاعَ أخرى من العالم.
"أؤمن أنَّ خلْفَ الحبَّاتِ الوادعاتْ، تزهو جنَّات، أؤمنُ أنَّ خلْفَ الليلِ العاتي الأمواج، يعلو سِراج. أؤمنُ أنَّ القلبَ المُلقى في الأحزان، يَلقى الحَنان كلِّي إيمان، إيمان، إيمان. أؤمنُ أنَّ خلفَ الريحِ الهوجاءِ شفاهْ، تتلو الصلاة، أؤمنُ أنَّ في صمتِ الكونِ المقفلِ مَنْ يُصغي لي. إنّي إذ ترنو عيناي للسماء، تصفو الأضواءْ تعلو الألحانْ، كُلِّي إيمان إيمانْ."