يخاطب الملك داود في مزموره الخامس إلهه وربّه بكلماته المنبثقة قائلاً: "لِكَلِمَاتِي أَصْغِ يَا رَبُّ. تَأَمَّلْ صُرَاخِي.
اسْتَمِعْ لِصَوْتِ دُعَائِي يَا مَلِكِي وَإِلهِي، لأَنِّي إِلَيْكَ أُصَلِّي. يَا رَبُّ، بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِرُ."
إن سفر المزامير مفعم بعبارات الابتهال والدعاة التي نطقت بها شفتا النبي الملك داود، يناجي فيها الله خالق السماوات والأرض، ويحدّثه بما يخالج قلبه وجوارحه في جميع الظروف والأحوال. فقد أدرك منذ نشأته قوة الله وسلطانه في المحافظة على حياته وسلامه. وأبرز ما نشهده في هذه علاقة ما نراه في قصة مجابهته مع جليات الجبار.
فمع أن عمره لم يكن قد جاوز السابعة عشر أدرك بعمقٍ ووعيٍ أن الله، والله وحده، هو القادر أن يمدّه بالقوة للانتصار على جليات والقضاء عليه. والدارس لحياة داود يُدرك أن مثل هذا الإيمان كان له فضل الغلبة على جميع المجابهات التي تعرّض لها داود إلاّ فيما ندر. وعندما أخفق، سقط، ووجد نفسه في موقف أساء إلى علاقته بالله، وخلق له مشكلات رهيبة كلّفت داود ثمنًا باهظًا في حياته، وعرّضت أسرته إلى نكبات جسام كان في غنى عنها.
هذه الأحداث في جملتها، خيرًا أم شرًّا، كشفت عن حقيقتين هائلتين في معاملات الله مع الإنسان.
كان الحقيقة الأولى هي حقيقة أمانة الله، وموقفه الواضح من الإنسان المؤمن الصادق الذي سلّم حياته له، واتّكل عليه في كلّ مواقفه وتصرّفاته، واختباراته، فأظهر الله بوافر الصدق والمحبة والإخلاص كل أمانة، ومحبة، وعناية، ورحمة، وتشجيع. فالله لا يمكن أن يخادع في مواقفه، أو يتلاعب في معاملاته مع الإنسان، لأنه صادق في وعوده، ووفيٌّ في عُهوده، يحافظ على أتقيائه ويرحمهم. يسترهم دائمًا في ظلّ جناحيه، ويدفع عنهم كل الأضرار والمصائب، ويمدّهم دائمًا بالقوة والغلبة. والذين وقعوا ضحايا في صراعهم، وانتقلوا إلى الحياة الأبدية، يتمتّعون في جناته، وينعمون ببركاته وإنعامه الأبدي. لأن الغلبة هي حقًا من نصيبهم في الحياة الأرضية وفي الأمجاد السماوية. فالله صادق حقًا في كل ما وعد به، ويرحم عباده، ويُمجِّدهم في جناته كما تعهّد.
كان إدراك داود لهذه الحقيقة هي سبب بركاته وانتصاراته وغلبته حتى في أشدّ الظروف الصعبة، والمتاعب القاسية لأن أنظاره كانت متجلّية دائمًا على الله خالقه. فالله "لا يُسَرُّ بِالشَّرِّ، لاَ يُسَاكِنُكَ الشِّرِّيرُ. لاَ يَقِفُ الْمُفْتَخِرُونَ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ. أَبْغَضْتَ كُلَّ فَاعِلِي الإِثْمِ. تُهْلِكُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَذِبِ. رَجُلُ الدِّمَاءِ وَالْغِشِّ يَكْرَهُهُ الرَّبُّ." (المزامير 4:5-6) هذه الحقيقة كانت صورة حيّة في عينيّ داود، لهذا عاش حياة برٍّ وقداسة.
أما الحقيقة الثانية فهي سقوط داود في الإثم، وموقف الله من هذه السقطات التي أثارت غضبه وعقابه على داود لأن إله داود يرفض الخطيئة ولا يرضى بالإثم. لهذا نجده يعاقب هذا الملك الذي اختاره بنفسه لأنه إله لا يحابي، ولا يُغضي عن شرّ الإنسان مهما كان هذا الإنسان عظيمًا لأنه إله قدّوس نقيٌّ طاهر. فبعد أن ارتكب داود خطيئته، وتسبّب في قتل أوريّا الحثّي أحد قادة داود المخلصين وزوج بثشبع التي ضاجعها داود فحبلت منه فيما كان زوجها أوريّا في الحرب قبل مقتله. هذه إحدى الحوادث التي أثارت غضب الله على داود، والتي لوّثت سمعته أمام الشعب. أفضت هذه العملية إلى غضب الله على داود الذي سقط في أنظار الشعب، فقضى نحو أربعين يومًا في صيام وتوبة، ومات الطفل الذي حبلت به بثشبع، وتعرّضت أسرته للمشاكل والويلات. إن موقف الله من خطيئة داود هذه كان مظهرًا من مظاهر شدة غضبه على الخطية التي ارتكبها داود في حقّ أوريّا، وزوجته، ونفسه، وفوق الكل في حقّ الله؛ فما كان من الله إلا أنِ اتّخذ هذا الموقف المتصلّب من داود، وجعله يتذلّل أمامه وأمام كل الشعب لأنه لم يحترم قداسة الله، وبرّه وسلطانه. وهكذا وجد داود نفسه في ظروفٍ قاسية أهمّها غضب الله عليه وعقابه له. (2صموئيل 11)
وهنا يبدو لنا الفارق في حياة المؤمن الذي أخطأ إلى الله، وغير المؤمن الذي هو متورّط في الإثم والفجور: إن غضب الله على داود كان غضبًا مقدسًا لأن داود، وكل مؤمن حقيقي، هو ابن روحي لله، لهذا انسحق داود أمام غضب الله، وأدرك أن خطيئته التي ارتكبها قد أضرمت غضب الله وسخطه عليه، وأن إثمه هذا أصبح فاصلاً بينه وبين الله، أي إن الحقيقة الرهيبة قد انكشفت أمام الله وأن قلب الله قد اضطرم بالسخط والنقمة. وأمام هذا الواقع الرهيب ارتعد كيان داود، وانهارت نفسه، ووقف خجلاً من نفسه، وسوء موقفه. أرعده غضب الله الذي كان صادق العهد معه وسيّج حياته بعنايته، ووقاه من كل شرٍّ. أما الآن فإن هذا الإله المحب الرؤوم قد احتدم غيظه، واضطرمت لهبُ غيظه لأن الخطيئة هي مكرهة للرب. كان داود مختاره وحبيبه، ولكنه أخفق في الامتحان. نعم، غضب الله على داود، وامتلأ قلبه أيضًا بالحزن والكآبة. لقد أخطأ مختاره الذي أقامه على كل إسرائيل، ومدّه بالانتصارات والقوةّ، ووهبه كل نعمة وثقة، غير أن بذرة الذات التي كانت تتضوّر بالرغبات فرضت ذاتها على داود وأخضعته لرغباتها، فاستسلم لها داود الذي كان يملك العديد من الزوجات والسرايا. استسلم إلى شهواته النازعة نحو الشر، وأخضع نفسه لمطاليبها، ورغباتها فأخطأ إلى الله وإلى نفسه وإلى الشعب... وهكذا انهارت حياته الروحية وأصبح في حالة يُرثى لها. لقد سحقه الله لكي يدرك حقيقة نفسه وأن تاج الملك وأمجاده لا يفيد شيئًا أمام غضب الرب. فالرب قادر أن يأتي بملك بل بملوك آخرين ليحكموا بدلاً منه ويقيمون العدل والصلاح. غير أن غضب الرب وسخطه كان ممزوجًا بالمحبة فهو لم يترك داود يتضرّج بقذارة الخطيئة بل أسعفه على التوبة والرجوع إليه منكسرًا، مترحِّمًا، طالبًا الغفران فرحمه الله، ورأى نعمة التوبة الحقيقية في قلبه، فمدّ إليه يده الحانية وغفر له ذنبه بعد تجديد خضوعه وتسليم قلبه للرب.
إن الله لا يشاء موت الخاطئ بل أن يرجع عن شرّه ويحيا ويتابع مسيرته بصدقٍ وحبٍّ وطاعةٍ وإخلاصٍ شاهدًا بذلك على نعمة الله ورحمته المخلّصة وعلى قوة غلبة الصليب الحيّة.