لا يُقاس الإيمان بالعقل أو العلم، ولا يُقاس بالفلسفة أو المنطق، فهذه المقاييس والمعايير تتعامل مع المنظور والملموس والمعلوم والمحدود... تتعامل مع الزمان والمكان ومع الظروف والأحوال.
أما الإيمان إن كان لا يتعارض أو يعارض هذه المقاييس والمعايير فإنه يتخطّى كل هذه الحدود ويعلو فوقها لأنه يتعامل مع اللامنظور واللامعلوم واللامحدود لأنه هو "الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى." (عبرانيين 1:11)
الإيمان يستخدم قدراتنا وإمكانياتنا البشرية لكنه يعلو فوقها ولا تستطيع أن تحدّ من فاعليته أو تعطّل عمله.
قال الرب يسوع المسيح: "الحق أقول لكم: إن كان لكم إيمان ولا تشكّون، فلا تفعلون أمر التينة فقط، بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل: انتقل وانطرح في البحر فيكون. وكل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه." (متى 21:21-22)
قال درك برنس (Derek Prince) في كتاب Faith to Live By [الإيمان الذي به نحيا]: "يرفعنا الإيمان فوق عالم قدراتنا الخاصة ويجعل إمكانيات الله متاحة لنا."
هذه الحقيقة يعلنها الكتاب المقدس في كل صفحاته ومن خلال حياة نساء ورجال الله الذين عاشوا بحقّ حياة الإيمان وأروع سجلّ مدوّن فيه عن هؤلاء هو الرسالة إلى العبرانيين 11، فبعد أن سجّل لنا عيِّنات من سحابة الشهود الأمناء قال كاتب الرسالة: "وماذا أقول أيضًا؟ لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون، وباراق، وشمشون، ويفتاح، وداود، وصموئيل، والأنبياء، الذين بالإيمان: قهروا ممالك، صنعوا برًّا، نالوا مواعيد، سدّوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجَوْا من حدِّ السيف، تقوّوا من ضعفٍ، صاروا أشدّاء في الحرب، هزموا جيوش غرباء..." (عبرانيين 33:11–39)
بعد هذه المقدمة التي أرى أنه لا بدَّ منها عندما نتحدّث عن الإيمان، دعونا نتأمل معًا في نوعيةٍ من الإيمان المُعاش، الذي يضع الله أوّلًا في نواحي الحياة المتنوِّعة، وقد اخترت إبراهيم رجل الإيمان الذي أُطلق عليه أبو الإيمان وخليل الله؛ لكي نتبيّن كيف يعمل الإيمان الحيّ في المؤمن فيتخلّى عن ذاته ويضع علاقاته الأسرية وغير الأسرية جانبًا ويجعل الله في حياته متقدِّمًا في كل شيء.
لقد دعا الله إبراهيم مرتين. في المرة الأولى قال له: "اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك... فذهب أبرام كما قال له الرب." (تكوين 1:12–4)
وفي المرة الثانية قال له الرب: "[خذ ابنك وحيدك، الذي تحبه، إسحاق، واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك.] فبكّر إبراهيم صباحًا وشدّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه وشقّق حطبًا لمحرقة، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله." (تكوين 2:22-3)
ويتّضح لنا من استجابة إبراهيم لهاتين الدعوتين أن إبراهيم أعطى الله الأولويّة الأولى وجعله متقدّمًا في كل شيء في حياته، فأعطاه:
أولًا: المحبة الأولى
إنني أرى في دعوتَي الرب لإبراهيم سؤالين هامين من الرب له: السؤال الأول، وكأن الرب يقول له: هل تحبّني يا أبرام أكثر من الأرض والعشيرة والأهل ومن بيت أبيك؟ وإن كان الأمر كذلك يا أبرام، إذن اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأعلم أنك تحبني! وهكذا فعل أبرام وأعلن بإيمانه محبّته للرب من كل قلبه. والسؤال الثاني، هل تحبني يا إبراهيم أكثر من إسحاق ابنك وحيدك الذي تحبه، وأكثر من سارة زوجتك؟ بل وأكثر من نفسك؟ فأجاب إبراهيم الرب لا بالكلام بل بالإيمان العامل بالمحبة، وقال للرب: نعم، يا رب. إني أحبك أكثر من إسحاق حبيبي وسارة زوجتي المحبوبة، وأكثر من نفسي. فأنت الأول في حياتي، وها أنا أبرهن عمليًا على محبتي لك يا رب، فهوذا إسحاق طريحًا على المذبح.
لم يتوانَ إبراهيم لحظة واحدة في تنفيذ دعوة الله له. ففي الدعوة الأولى، يقول الوحي: "فذهب أبرام كما قال له الرب." (تكوين 4:12) وفي الدعوة الثانية يقول الكتاب: "فبكّر إبراهيم صباحًا وشدّ على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه وشقّق حطبًا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله." ثم نقرأ أيضًا عندما وصل إلى الموضع ربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب (تكوين 3:22 و9).
وفي كلتا المرتين لم يتساءل أو يتحاور إبراهيم مع الله، لم يتوانَ ولم يتململ أو يتمهل في تنفيذ دعوة الرب له، بل كالجندي الذي يتلقّى الأمر أسرع لتنفيذه في الحال دون تأخير أو تأجيل أو معارضة. لاحظ هنا أن طاعة إبراهيم كانت:
طاعة فورية وكاملة في إتمام كل ما أمره به الرب دون انتقاص، فترك وطنه وعشيرته وأرضه، ووضع ابنه على المذبح. لم يطلب بدائل من الله أو اختيارات أخرى. لم يطلب تعديل الأمور لصعوبة تنفيذها، بل خضع تمامًا لإرادة الله وخطته له.
وكانت طاعة إبراهيم طاعة واعية ومقتنعة بالمطلوب منه، لذلك أعدَّ وجهّز كل ما يلزم للذبيحة؛ أخذ كل الأدوات اللازمة معه، حتى لا يلتمس لنفسه أي عذر فيتوقّف عن تقديم إسحاق، فيلقي اللوم على الرب لأنه لم يجد سكينًا أو حطبًا، أو حتى يبرّر نفسه. وليس هذا فقط بل تجنّب كل المعوّقات والمعطّلات التي يمكن أن تعيق تقديمه الذبيحة، فأمر الغلامين أن يمكثا بعيدًا حتى يرجعا، خوفًا من أن يمنعاه من إتمام المهمة، أو يعطّلانه، أو حتى يشكّكانه سواء بالاقتناع أو بالقوة.
أيضًا كانت طاعته صابرة غير يائسة فالله لم يعلن له المكان إلا بعد ثلاثة أيام. فلنتخيّل معًا، ما هي الأفكار التي راودته في مسيرته في الطريق الطويل؟ وما هي الحروب التي شنّها عليه إبليس، لكنه لم يفشل ولم ييأس.
وكانت أيضًا طاعته واثقة كل الثقة في الرب "إذ حَسِبَ أن الله قادر على الإقامة من الأموات." (عبرانيين 19:11) وهذا واضح من إجابته عن سؤال إسحاق: "... أين الخروف للمحرقة؟" فقال إبراهيم: "الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني." (تكوين 7:22-8) كان واثقًا من تدبير الله للذبيحة البديلة.
الإيمان الحي يقول مع بولس: "يا ربّ، ماذا تريد أن أفعل؟" فيضع الله في المقدمة دائمًا قبل الابن المحبوب... قبل الزوجة أو الزوج... قبل الأمهات والآباء... قبل النفس... وقبل أغلى شيء في الحياة، خاضعًا طائعًا في كل شيء.
ثانيًا: العبادة الحقيقية
أول عمل قام به إبراهيم بعد أن لبّى دعوة الرب له وبعد أن ترك وطنه وأهله وبيت أبيه، يقول الكتاب أنه: "بنى هناك مذبحًا للرب ودعا باسم الرب." (تكوين 7:12-8) ترك العبادات الوثنية والتزم بعبادة الرب الذي ظهر له، واستمرّ هكذا يتعبّد له. الإيمان الحيّ يفجّر في داخلنا الأشواق المقدسة لعبادة الله وتمجيد اسمه، ويضع شركتنا مع الله في مقام الأولويّة في حياتنا فنصرخ مع داود قائلين: "يا الله إلهي أنت. إليك أبكر. عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء." (مزمور 1:63) فهل فينا حقًا الأشواق لعبادة الله؟ وهل نعطيه الأولوية لوقت العبادة في الاجتماعات والخلوة الشخصية، أم أن العالم والمشغوليات الكثيرة أبعدتنا عن إقامة مذبح الرب في حياتنا؟
الإيمان يضع الله أولًا وفي المقدمة في حياتنا، عندئذ نطيعه أولًا، طاعة فورية كاملة، طاعة واعية، ملتزمة وواثقة، طاعة محتمِلة وصابرة... وأيضًا نحبّه أولًا قبل كل شيء وأكثر من أي شيء أو أي شخص، نحبّه من كل القلب والفكر والإرادة، نحبّه لا بالكلام بل بالعمل... وكل هذا يدفعنا ويضع في قلوبنا الأشواق لعبادته أولًا والتلذّذ بمحضره والتمتّع بشخصه. فهل لنا هذا النوع من الإيمان الذي يضع الله أولًا في مقدمة حياتنا، وفي مقدمة أولويّاتنا؟