دار الحوار التالي بين ما تشعر به المرنمة لورين دانجيل من مشاعر ويجول في فكرها من أفكار، وبين ما يقوله عنها الخالق الرحمان والمعطي المنَّان فعبَّرتْ عنها بهذا الأخذِ والرَّدِّ في ترنيمتها قائلة:
"أظلُّ أحارب أصواتًا في داخلي تصيحُ مردِّدةً: [أنتِ لستِ جديرةً بشيء.] وكلُّ كذبةٍ منها تقول لي بأنَّني لن أسموَ يومًا أو أرتقي. فتساءلتُ: [هل أنا لستُ أكثرَ من نتاجٍ لتقلّباتِ الحياةِ وتغيُّراتِها؟] ذكِّرْني ربّي مرةً أخرى بمَن أنا؟! لأنَّ معرفتي لنفسي هي الآن مسيسُ حاجتي! أنت تقول بأنني محبوبة، في حين أنا لا أشعر بذلك! تقول بأنني قوية لكنني أحسُّ بأنني ضعيفة! وكذا أنت تقول بأنَّني محمولةٌ على كفَّيك، أما أنا فأشعر بتقصيري! وحين أظنُّ بأنني لا أنتمي لأحد، أوه، تذكّرُني وتقول بأنَّني لكَ! أوه، وأنا أؤمنُ أوه أنا أؤمن بما تقوله أنتَ عني! أجل أنا أؤمن. إنَّ الشيء الوحيد الذي يهمُّني الآن، هو ما تفكرُ به أنتَ عني، لأنَّني فيك، نعمْ فيكَ وجدتُ قيمتي، وفيكَ وجدتُ هويّتي! لذا أقدِّمُ بالمقابل، كلَّ ما ليَ، وحياتي، وكلَّ ما عندي الآن، وأضعُه عندَ قدميكَ. وأنت تأخذُ كلَّ عجزي وضعفي يا رب، وتحوّلُهما إلى نُصرةٍ فيكَ، نُصرةٍ ما بعدَها نُصرة!"
أجل، وتكثر الحواراتُ بين الإنسان وربِّه، وتتصاعد التساؤلات والآهات والحشرجاتُ من قلوبٍ مفعمة بالأحاسيس والأفكار والمشاعر التي لا يعلمُ بها أحد إلا اللهُ وحدَه لأنَّها صلواتٌ وابتهالاتٌ وجدانية يرفع بها الإنسانُ المخلوق ما يفكر به وما يشعر به إلى خالقه الذي يعرف ما في قلبه وفكره ولبِّه وحناياه الداخلية. وبعضُ الحوارات التي تجري هناك في حنايا النفس هي حواراتٌ صامتة لا يسمعها أحد سوى الله الذي اختبرَ الإنسان وعرفَه من بطنِ أمه. لا بل وكما عبَّر النبي والمرنم داود في مزموره 139 فقال: "لأنك أنت اقتنيتَ كليتيّ. نسجتَني في بطن أمي... لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنعْتُ في الخفاء، ورُقِّمت في أعماق الأرض. رأتْ عيناك أعضائي، وفي سِفْرك كلُّها كُتبتْ يوم تصوَّرَتْ... عجيبةٌ هذه المعرفة، فوقي ارتفعتْ، لا أستطيعُها..." وحين يسمع الله صراخ الإنسان حتى الصامت منه يهبُّ في الحال، ويذكّر محاورَه بأنَّه هو المحبوب بالمحبة الأبدية، إذ يقول له: "محبةً أبديةً أحببتُكِ، من أجل ذلكَ أدمتُ لكِ الرحمةَ." (إرميا 3:31) ويؤكد لكلِّ مَن يقولُ بأنَّه نسيَهُ: "وهل تنسى المرأةُ رضيعَها فلا ترحمَ ابنَ بطنها؟ حتى هؤلاءِ ينسَيْن، وأنا لا أنساكِ. هوذا على كفيَّ نقشتُكِ..." (إشعياء 15:49-16) ومن ثمَّ يطمئنُ طالبَه فيقول له: "أنا الله القدير" (تكوين 1:17) وأيضًا: "... لأنَّ قوّتَي في الضعف تُكْمَلُ." (2كورنثوس 9:12) عندها فقط، يعود الرجاءُ ليتوهَّج من جديد تمامًا كما وصفتِ المرنمة لورين دانجيل، فقضى على كل تلك الأكاذيب والمشاعر والأفكار التي راودتْها، وهبَّت منتصبةً لتقول: "أنا أؤمنُ يا رب، أنا أؤمن بما تقوله أنت عني. لأنني بك عرفتُ قيمتي، وفهمتُ قدْري ووجدتُ هويّتي الضائعة. هويتي التي استرْددتُها من ذاك الذي أحبَّني فعلًا وأسلم نفسه لأجلي، هناك فوق خشبة العار والذلِّ والهوان. ولهذا أقدِّمُ لك حياتي من جديد لا بل أكرِّس كلَّ ما ليَ وأضعُه عند قدميك فأنتَ خلّي ورفيقُ دربي، وأنت إلهي الذي لن يتركني بل تسيرُ معي في المروج الخضراء، وفي الوديان السحيقة ومن ثَمَّ تقيمُني على مرتفعاتي!" فهل هناك حقًا أفضلُ من حوارِ الوجدان مع خالق الأكوان صانع الإنسان أصامتًا كان أم ناطقًا لا فرق؟
وتتكرر الحوارات وتزداد التساؤلات حين يجتاز الإنسان بالمِحَن والأزمات والأمراض، أو حين يفقدُ عزيزًا أو قريبًا أو حبيبًا. وما أكثرَ الفقدانَ في هذه الأيام الصعبة من جرَّاء الوباء العالمي (الكورونا) الذي تخطَّى وجودُه على سطح الأرض أكثرَ من سنة! فتحزنُ الروح وتشتكي ويطلبُ الواحد منا الله فيجدُهُ بصورٍ مختلفة لم تخطرْ قطُّ على بال! وبعد حديث طويل معه، يسرع المانحُ القدير ويقرعُ على باب قلب أحد أولاده المحبوبين، ليشغَلَهُ بأخٍ في ضيق أو أخت تحتاج إلى تشجيع. وسرعان ما تسمع هذه المناجية لله وفي هذه الحال هي أنا، صوتَ جرس الهاتف يرنُّ وإذا به إحدى الأخوات تتّصلُ قائلة: "هل أنت ِبخير؟ فلقد شغلَني الله بكِ منذ البارحة وأحب أن أطمئنَّ عليك وأصلي معك فهل تريدين؟" وهنا توقّفتُ لحيظةً لأستوعبَ ما جرى للتوِّ، وحين فعلتُ، امتلأتْ محاجري بالدموع، وشكرت الله الذي سمعَ لي وأرسل ملاكًا من عائلته المقدسة لمواساتي وتعزيتي في حزني وألمي بسبب فقدان ابنة خالتي المحبوبة التي قضَتْ بمرض الكورونا. ليس هذا فحسب، بل حَبَاني الله بأختٍ من ولاية في شرق أميركا في الأسبوع ذاته، لتتَّصل أيضًا خصيصًا وتسأل عن أخي المريض وتصلّي معي لكي يمُنَّ الله عليه بالشفاءِ بعد أن طالت محنةُ مرضه وتخطَّتِ الأربعةَ أشهر!
نعم، معاملاتُ الله معنا تُثري حياتَنا، وتجعل لها معنىً كما وتملأها بكنوزٍ لا تضاهيها أموالُ العالم كلّه. نعم، ليس الله بعيدًا كما زعموه. بل هو قريبٌ لكلِّ مَن يدعوه، سواء بمناجاةٍ صامتة، أو بدموعٍ، أو بصلاة مسموعة تصبح ترنيمة. ولا بدَّ أنَّ الله يسمع ويستجيب. ويرسل العون للتشجيع والمواساة والتعزية. ألم يقل صاحب المزامير: "يا سامعَ الصلاة إليكَ يأتي كلُّ بشر." (مزمور 2:65) و"طوبى للشعب الذي الربُّ إلهُه؟" (مزمور 15:144)
في فقرةٍ، عن الطيور المهاجرة التي قرأتها مؤخرًا وكانت فعلًا أجمل وأبلغ ما قرأت، يقول الكاتب: "تقطع الطيور المهاجِرة مسافاتٍ بعيدةً جدًّا في الطيران. كيف تفعلُ ذلك؟ إنها تطيرُ على هيئة صفوفٍ علويَّة وصفوفٍ سفليّة. فالصفوف السفلية تضرب بأجنحتها وبقوة، وبصورة مستمرة، لكي تخلقَ تيارًا دافعًا يحملُ الطيورَ العلوية وتجعلُها تستريح على وسادةٍ دافئة من الهواء. وبذلك تحصل على قسط من الراحة. وبعد ذلك يحدثُ التغييرُ والتبديل: فالصفوف العلويّة تأخذ مكانها لتقومَ بدورها في الصفوف السفلية فتبدأُ باستخدام أجنحتها لضرب الهواء فتخلق هي الأخرى وسادةً مريحة للصفوف العلويّة. وهكذا تتمّ الرحلة بسلام وراحة." (يوميات الرب قريب 13 آذار/مارس)
فهل تحتاج قارئي وأنتَ تجتاز في رحلة الحياة إلى سنَدٍ ورفيقٍ يشعر معك ويتألَّم لألمِك ويحنّ عليك ويصلّي من أجلك فيضرب بأجنحته رافعًا إيّاك بالصلاة المقتدرة؟ وأنت أيضًا، هل تفعلُ ذلك من أجل أخيك فترفعه على وسادةٍ مريحة لكي يتمّمَ مسيرته ويسيرَ بأمان في وسط عالم مضطرب ومؤلم؟ يقول الرسول بولس في رسالته إلى الكنيسة في كولوسي هذه الكلمات مسوقةً بالروح القدس: "فالبسوا كمختاري الله القديسين أحشاء رأفاتٍ، ولطفًا، وتواضعًا، ووداعة، وطول أناة..." (12:3) وفي رسالته إلى الكنيسة في رومية: "... مواظبين على الصلاة، مشتركين في احتياجات القديسين... فرَحًا مع الفَرحين وبكاءً مع الباكين. مهتمِّين بعضكم لبعض اهتمامًا واحدًا." (12:12-16)
بعد تساؤلات المرنمة لورين دانغيل في البداية التي وجَّهَتْها إلى الله، وعبَّرت من خلالها عمَّا يجري في مكنونات قلبها ووجدانها من أفكار ومشاعر، نجدها تصل إلى معرفة هويّتها الحقيقية وهي أنَّها ذات قيمة في نظر خالقها وهكذا سمعت قولَه لها: أنت محبوبة، أنت قوية، أنت مرفوعة ومنقوشة على كفّيَّ، وأنتِ لي." عندها تواضعتْ وصدَّقت وآمنت وسلَّمت حياتها بالكلية لمَن أحبَّها وفاهت بقوة: "أنا أؤمن. أجل، أؤمن."
فهل أصبح الله أباكَ وأنتَ غدوت من عائلته الكريمة؟ وهل كرَّست له الحياة؟ وهل حملْتَ وتحملُ أثقالَ إخوتك وتشعر معهم لأنَّك أصبحتَ من عائلة بيت الله المقدسة؟ عندها فقط، تجدُ شبَعًا لقلبك الجائع، وشفاءً لنفسك السَّقيمة، وارتواءً لكلِّ ظمأ وعطَش في داخلك. لأنَّ قلوبُنا جميعًا فيها حنينٌ مستديمٌ، وبدونِه لا ارتواءَ.