ربما يستغرب البعض هذا العنوان للوهلة الأولى فيقول: كيف تصرخ الحجارة وهي صمّاء بكماء؟ ولكن مهلاً فأنا كنت قد صُدِمتُ مثلكم من هذه العبارة مرة
قبل أن أدرك عمقها، وصدق قائلها وهو كلمة الله المنزّه عن الخطأ والزلل. فقبل صلبه بأسبوع من الزمن - ورغم التهديدات الكثيرة والمؤامرات الخسيسة لقتله - دخل الرب يسوع إلى مدينة أورشليم، ممجَّدًا من جموع غفيرة أحاطت بموكبه المتواضع حيث تمّت فيه نبوّة زكريا في العهد القديم التي تقول: "اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ." (زكريا 9:9)
يصف متى البشير الحدث بقوله: "وَالْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: «مَنْ هذَا؟»" (متى 8:21-10) وقد عقّب لوقا البشير على ذلك بقوله: "وَأَمَّا بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، انْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ!». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!»" (لوقا 39:19-40)
لقد كنت كلماته المباركة الواثقة "مجازًا" تضمّن بكل وضوح صُلب الحقيقة وقوّتها! فما هي إلا أيام قلائل حين سكت معظم أولئك الذين كانوا يصرخون، أو أُسكِتوا بتأثير رؤساء الكهنة والفريسيين وتغيّروا إلى الضدّ؛ فحين قال لهم بيلاطس الوالي الذي كان يُحاكِم يسوع "أتريدون أن أُطلق لكم ملك اليهود؟" "فهيّج رؤساء الكهنة الجمع لكي يُطلق لهم بالحري باراباس. فأجاب بيلاطس أيضًا وقال لهم: [ماذا تريدون أن أفعل بالذي تدعونه ملك اليهود؟] فصرخوا أيضًا: [أصلبه.]" - كان بيلاطس رجلاً ضعيف الإرادة فاسد الضمير، لذلك فقد أسلم المسيح لمشيئة رؤساء الكهنة مع كتيبة من الجند ليعذّبوه ويصلبوه.
- ولكن الأمر الواضح هنا أن الله يستخدم شرّ الأشرار لإجراء مشيئته وقصده الصالح. فبعد أن تمادى الجند في تعذيب المسيح والاستهزاء به جلدوه ثم أخذوه فصلبوه بين لصَّين لكي تتم النبوّة القائلة: "وأُحصي مع أثمة." ولم يكتفِ رؤساء الكهنة بذلك بل بعد ما جاء يوسف الرامي إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع وأنزله عن الصليب وكفّنه بكل احترام مع الحنوط ووضعه في قبره المنحوت في الصخر والذي لم يكن قد وُضع فيه أحد من الناس، ودحرج حجرًا على باب القبر.
"وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ."
- بهذا الإجراء انقلب السحر على الساحر. ففي صبيحة اليوم الثالث وهو أول الأسبوع قام الرب من بين الأموات وغادر المكان. ثم جاء ملاك ودحرج الحجر عن باب القبر "فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات." ثم هربوا وأخبروا رؤساء الكهنة بما حدث، فأعطوا الحراس فضّة ووعدوا بالتدخّل لإنقاذهم من العقاب على أن يقولوا: "إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام." فلقد أصبحت كذبة سرقة الجسد عديمة الجدوى تمامًا. فأيّ قاضٍ أرضي يأخذ بشهادة شخص كان نائمًا: عمّن جاء، أو من ذهب، وماذا فعل، وكيف تمّ ذلك؟"
- وهنا صارت حجارة القبر الفارغ والحجر المدحرج عن باب القبر شواهد صارخة في وجوه أفراد السلطات الدينية والسياسية في تلك الأيام، تقول لهم إن المسيح قد قام حقًّا بما لا يدعُ مجالاً للشكّ والريبة وما زالت هناك حتى يومنا هذا وستبقى صارخة للذين يزورون الأراضي المقدّسة بالملايين، معلنة أن المسيح قد قام ناقضًا أوجاع الموت.
- وعلى الوجه الآخر، فإن تقاليد ذلك الزمان كانت تتضمّن أن للأسماء معانٍ مرادفة لأشخاصها، وكان اسم "الصخرة" أو الحجر الكبير يشير إلى الشخص الذي له مركز مؤثّر في مجتمعه. وبهذا المعنى يشير يهوذا الرسول في رسالته إلى الأشخاص الذين يتزعّمون في الكنيسة لإظهار ذواتهم بأنهم "صخور" ولكنها زائفة فارغة لا قيمة لها. فيقول: "هؤُلاَءِ صُخُورٌ فِي وَلاَئِمِكُمُ الْمَحَبِّيَّةِ، صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعًا بِلاَ خَوْفٍ راعين أنفسهم، غيوم بلا ماء تحملها الرياح، أشجار يابسة بلا ثمر ميّتة مضاعفًا مقتلعة ..." (يهوذا 12)
وكان الرب يسوع قد غيّر اسم سمعان تلميذه إلى بطرس، ويعني الصخرة أو الحجر الكبير، ذلك الذي كان خائفًا أمام الجواري والخدام أثناء محاكمة المسيح لدى رئيس الكهنة، فضعف وأنكر! لكنه وقف في يوم الخمسين - وبعد حلول الروح القدس على التلاميذ - يشهد صارخًا بكل قوة وشجاعة في وجه الكتبة والكهنة والفريسيين قائلاً: "هذا أخذتموه مسلّمًا بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه. الذي أقامه الله ناقضًا أوجاع الموت إذ لم يكن ممكنًا أن يُمسك منه." (أعمال 23:2-24) "فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف شخص." هذا مثال من بين تلك الحجارة الحية التي قامت تصرخ معلنة صلب المسيح وقيامته من بين الأموات متمّمًا عمل الفداء، مدعومة بقوة القيامة وسلطان الروح القدس، وكانت صرخاتهم سببًا في تراجع كثيرين من الكهنة والرؤساء عن ملاحقة التلاميذ بعنف شديد، حيث اهتدى شاول الطرسوسي وغيره وأصبح ذلك المضطهِد العنيف رسولاً يشهد لقيامة المسيح وخلاصه حيث غيّر اسمه إلى بولس. فلقد أدرك هؤلاء الرؤساء أن صيادي الأسماك تلاميذ المسيح لم يكونوا يعملون بقواهم الذاتية بل بقوة غير عادية أُعطيت لهم من فوق. حيث كانوا مستعدين لمواجهة السلطات العسكرية والدينية بقوة الكلمة فقط. فهم لم يستلّوا سيفًا ولا امتشقوا رمحًا، لم يحملوا ترسًأ ولا أوتروا سهمًا، ولكنهم واجهوا قوة السيف والنار والوصوش الضارية التي قُدّم بعضهم إليها من قبَل أباطرة الرومان الأشرار كنيرون ودومتيان، وبالرغم من كل الاضطهادات والمقاومات العنيفة لم تسكت تلك الحجارة الحية عن إعلان موت الرب يسوع وقيامته المجيدة لأجل فداء الجنس البشري. وستظل حتى يوم مجيئه القريب ثابتة على إيمانها القويم. وسيظل كبارها وصغارها المؤمنين بقيامة الرب من بين الأموات كلاً في موضعه المخصص له على هذه الأرض الفانية حتى ينقل الجميع إلى دياره الباقية ويبقون إلى الأبد في الأمجاد التي أُعدّت لهم من قِبَل الرب في دياره العليا كما قال لملاك كنيسة فيلادلفيا: "من يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي ولا يعود يخرج إلى خارج وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد."فتلك الحجارة الصارخة في هذه الأرض ستصبح حجارة راسخة في هيكل ملكه السعيد عند استعلان مجده العظيم العتيد.
حقًا إنه قام بكل قوة وسلطان.