عاش المسيح على الأرض بجسده المميًّز ثلاثًا وثلاثين سنة كأي إنسان آخر، إنما بلا خطية. لم يُعبْهُ شيء...
وها سيرته في أسفار الإنجيل واضحة لكل من يريد الاطلاع عليها. في لقاء له يومًا مع مجادليه من اليهود، تحدّاهم بقوله لهم: "من منكم يبكّتني على خطية؟" فهو الله المتجسد، شاء وأخذ جسدًا حلّ فيه في أحشاء عذراء طهور لم يمسسها رجل ووُلد منها ونما، وكبُر مثل غيره من الناس. عاش بينهم، ومشى في شوارعهم، وشفى مرضاهم.
كان كغيره يجوع، ويعطش، ويتعب، ويستريح، وينام، ويحزن، ويتألم، ويبكي أحيانًا... يعيش مثل باقي الناس، إنما في طهرٍ ونقاءٍ لم يصل إليه غيره من بني البشر! فتلك ميّزة لا يشاركه بها أحد. لأنه هو الله المتجسِّد! هو الكلمة الذي صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده... ففي قدرته أن يكون كما يشاء... ومن يمنعه؟!
ومن خلال تواجده على الأرض نادى وعلّم بما لم ينادِ بمثله آخر... وعمل معجزات لم يقم بمثلها أحد... وخطب وقال ما لم ينطق به غيره.
ومن أقواله: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة."
"أنا هو الطريق والحق والحياة." بمعنى أنا الصراط المؤدّي إلى الفردوس... للجنة!
ونادى المتعبين بسبب خطاياهم وهمومهم ومشاغلهم المُرهقة فقال:
"تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني، لأني وديع ومُتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هيِّن وحملي خفيف."
من غيره يجرؤ أن يقول كلمات كهذه؟! إنما ما نريد الوصول إليه في هذا البحث هو: كيف انتهت حياة يسوع هذا، على الأرض بعد ما أكمل ما جاء من أجله؟ كيف غاب عن الساحة؟ إلى أين ذهب؟! ما المصير الذي انتهى إليه؟
هنا تشعّبت الآراء وكثرت التخمينات والتحليلات خارج الوسط المسيحي، وكل له رأيه!
فلو طرحنا السؤال بداية على المسيحيين أولًا، فالمسيحيون يقولون إن المسيح ولد من عذراء لم يدانِها رجل، معجزة فريدة لها أسبابها وما ترمي إليه، وهم يعرفون ما تعنيه، فالمعجزة لديهم لم تكن مجرد استعراض لقدرة الخالق على صنعها، والمسيحيون لديهم وثائق نبوية في كتاب وحيٍ صادق تشير مُسبقًا إلى ما سينتهي إليه المسيح من صلبٍ وموتٍ ودفنٍ وقيامة! يمكن الرجوع في ذلك إلى إشعياء 53، ومزمور 22 وهناك نبوءات صريحات أنبأت بصلبه لفداء البشرية قبل الصلب، وقبل الميلاد بمئات السنين. فالصلب لم يكن مجرد عارض حصل، بل قد خُطِّط له من العلي قبل قرون لفتح باب الرحمة والفداء للبشرية!
والمسيحيون يؤمنون كذلك أن المسيح بعد أن مات ودُفن في القبر، قام في اليوم الثالث وغلب الموت، وأظهر نفسه لتلاميذه وأراهم أثار مسامير الصلب في يديه ورجليه وطعنة الحربة من الجندي الروماني في جنبه... ففرحوا وتهللوا بقيامته... بعدها بقي المسيح معهم لأربعين يومًا، لكن منفردا عنهم، يظهر لهم ويشجّعهم ويدعوهم لينشروا الخبر للعالم فقال: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا (بشّروا) بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلُص، ومن لم يؤمن يُدن." وهذا ما فعلوا... لم يحملوا سلاحًا في جولاتهم، وبدون حرب أو قتال، لكن بالكلمة، بكلمة البُشرى السارة، ربحوا الملايين للمسيح، وبالتالي انحنى النسر الروماني للإمبراطورية الرومانية عند أقدام الصليب بدون جيش ولا قتال ولا غزوات، وتغيّر وجه الأرض!
بعد أربعين يومًا من قيامة المسيح من القبر، أخذ يسوع تلاميذه إلى جبل الزيتون، إلى الشرق من أورشليم ببضعة مئات من الأمتار، وخاطبهم بآخر ما أوصاهم به، ثم رفع يديه وباركهم، وفيما هو يباركهم حملته سحابة أمام عيونهم، وارتفعت به إلى السماء، وهم ينظرون! وبينما هو مُنطلق وهم يشخصون إلى السماء بذهول، وقف بهم ملاكان بلباس أبيض وقالا: "أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء."
عندها رجع التلاميذ إلى أورشليم يحدوهم الأمل بعودة المسيح ثانية إلى الأرض ونقلوا الخبر... ومن يومها ما زال المسيحيون ينتظرون مجيئه ثانية بشوق، وسيأتي... لن يخلف وعده... ولعله يوم قريب.
ونعود للسؤال من جديد: كيف كانت نهاية المسيح على الأرض؟ وما المصير الذي انتهى إليه؟
فلو طرحنا السؤال على اليهود وهم طرف فاعل في هذه القضية، فالمسيح وُلد في مجتمع يهودي، وأمه المباركة أم يهودية. وهو عاش بينهم والتقى بالكثيرين منهم وحاورهم وشفى مرضاهم ومرضى غيرهم على مرأى ومسمع منهم، ومع ذلك قاوموه ورفضوه ونادوا بصلبه، فصُلب أمام عيونهم، ومات على مرأى منهم، وتشفّوا به، والتاريخ شهد بذلك والسجلات الرومانية والمؤرخون.
وبذاك انتهت علاقة اليهود بالمسيح بقيادة كهنتهم آنذاك، وما أفتوا به لشعبهم ورفضوا المسيح، فقال فيهم الإنجيل: "إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله."
ومع ذلك، ملايينٌ من اليهود منذ زمن المسيح وما بعده عبر القرون، انضموا إلى قافلة المسيح وقبلوه وتوّجوه ربًّا وملكًا على حياتهم بعد أن درسوا وتحقّقوا من نبوءات أنبيائهم في الكتاب وانضموا إلى الركب وصاروا مسيحيين... ويشار هنا إلى أن الرعيل الأول عندما أنشئت الكنيسة الأولى في القرن الأول للميلاد، كانوا في الغالبية العظمى يهودًا آمنوا بالمسيح، ومنهم من حملوا رسالة الإنجيل إلى باقي شعوب الأرض كبولس، وبطرس، وتوما، ومرقس، وبرنابا، وغيرهم. ومعظم هؤلاء ماتوا استشهادًا أثناء قيامهم بالواجب لنشر بشارة الإنجيل بين الشعوب، وعلى أكتافهم قامت الكنيسة الأولى في القرن الأول للميلاد.
واليوم يوجد في فلسطين بعضًا من الكنائس المسيحية المحلية، والمنتمون إليها كلهم يهود مسيحيون مثلنا لا يختلفون عنا بشيء، سوى أنهم من خلفية يهودية آمنت بالمسيح، وهذا أمر طبيعي، فالمسيح لكل الناس، وسلطات بلدهم لا تمنعهم من أن يكونوا مسيحيين.
أما المسلمون الذين نتعايش معهم في بلداننا فلهم عقيدتهم ومن خلالها يعترفون بأن المسيح وُلد من عذراء يكرمونها، ويعتقدون أن المسيح نبي مميّز إنما لم يُصلب... وبرأيهم أنهم بذاك يكرمونه ولا يرضون له الإهانة والضيم.
بهذا نخلص إلى أن أصحاب الديانات الثلاث المسماة بديانات التوحيد، اختلفوا بتحديد هوية المسيح وبالمصير الذي انتهى إليه.
ونتساءل: لماذا اختلفوا؟! وهل يمكن أن يختلف الوحي!
حاشا لله أن يقول قولًا لجهة ويناقض قوله لجهة أخرى... وهل يرضى الله بأن تبقى إعلاناته في كتب وحيه مُبهمة تتضارب حولها الآراء؟!
سؤال لا بد منه، نطرحه في مرمى كل من يهمه الأمر ليتفكر به ويتأمل لبعض الوقت ليجد الحلّ، والحل ليس بعيد المنال، ونُذكر هنا أن قضية كهذه، أهميتها أنها تتعلّق بالمصير الأبدي بمن يؤمن أو لا يؤمن.
على كل حال، لو أمكننا أن نتجاوز هذا الجدل القائم، باعتبار أن العقيدة مُرتبطة بضمير صاحبها، وليس من السهل الانتقال إلى غيرها، إلا إذا نال أحدهم لمسة ربانية تنيرُ قلبه وتُصحّحُ مساره وتُريح ضميره.
ورغم ذلك يبقى السؤال المُلحّ قائمًا ويحتاج إلى جواب: كيف انتهت حياة المسيح على الأرض بعد أن استكمل ما جاء من أجله وغاب؟ كيف غاب؟! وأين هو الآن؟ هل مات فعلًا أم لم يمت؟ وإن مات، كيف مات؟ وأين استقرّ جسده؟! أين الجثة وبقايا العظام؟
وإن لم يمت، فمَنْ من البشر يا رعاك الله، يبقى على قيد الحياة لألفي عام ويزيد؟! وإن حصل، فلماذا تميَّز المسيح دون غيره في هذا؟! هنا يكمُنُ مفتاح الحل! ويتكشّفُ اللغز الذي نبحث عنه، ويزول الإبهام، وطوبى لمن اهتدى إليه!