من أجمل الآيات التي وردت في بشارة يوحنا هي المذكورة في 34:4، إذ قال يسوع ردًّا على مداخلة تلاميذه، يا معلّم كُلْ:
"طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ." قال هذا بعد أن وضّح لتلاميذه أن له نوعًا من الطعام يختلف عن طعامهم، وغير معروف لهم (ع ٣٢). قبل ذلك، كان يتحدّث مع المرأة السامرية وهي تجادله عن المكان الصحيح للعبادة:
هل هو في هذا الجبل – أي جبل جرزيم على الأغلب، حيث كانت تُتْلى البركات على الشعب، تثنية 29:11 - أم في أورشليم، يوحنا 20:4؟ هذا انعكاس لِما ورد في تثنية 5:12 "بَلِ الْمَكَانُ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِكُمْ لِيَضَعَ اسْمَهُ فِيهِ، سُكْنَاهُ تَطْلُبُونَ وَإِلَى هُنَاكَ تَأْتُونَ."
قال لها يسوع: "السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِـالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ." (ع ٢٣). ثم وضّحَ لها يسوع أن الله روحٌ، والذين يسجدون له ينبغي أن يسجدوا بالروحِ والحق. فمَنْ هم الساجدون الحقيقيون؟ وما معنى السجود لله بالروحِ والحقِّ؟
نستطيع أن نعرف هوية الساجدين الحقيقيين من خلال متابعة القراءة في الفصل الرابعِ هذا. فعندما قال يسوع أن طعامه هو أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله ويتمّم عمله، حاجج التلاميذ قائلًا، إن الحصاد الطبيعي للمحاصيل يكون بعد أربعة شهور، وطلب منهم أن يرفعوا عيونهم وينظروا الحقول أنها قدِ ابْيَضّت للحصاد!
بما أن يسوع قاد تفكيرهم إلى الأمور الروحية، ينبغي أن ننظر إلى المقطع من وجهة نظر روحية. إن طعام يسوع هو أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله ويُتمِّم عمله. الحصاد قد جهز، فينبغي أن يعمل الحصّادون ليجنوا الحصاد ويضعوه في المخازن. فأين الحصاد؟ وأين الحصّادون؟
لاحظ التسلسل الذي وضعه يوحنا كشاهد عيان على الأحداث:
ارتقى الحديث بين يسوع والمرأة السامرية إلى مرحلة مهمة توضَّحت فيها هوية يسوع للمرأة السامرية: "أَنتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ — لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الْآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِـالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. الله رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا. قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْء. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ»." (يوحنا 22:4)
لم يحدث أن أفصح يسوع عن هويته الحقيقية بأنه المسيح لأي شخص آخر غير التلاميذ، لكنه أفصح عن هويته للمرأة السامرية. حتى أن نيقوديموس المعلم اليهودي لم يعرف هوية يسوع الحقيقية لأنه لم يكن مدركًا للأمور الروحية! في هذه المرحلة حدث ما يلي:
تركت السامرية جرَّتها وذهبت إلى المدينة تشهد قائلةً: "هَلُمُّوا انـْظُرُوا إِنـْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟" (يوحنا 29:4) "فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ." (ع 30)
جاء التلاميذ ودار النقاش عن الأكل، وفي ع ٣٤ قال لهم يسوع أن طعامه أن يعمل مشيئة الذي أرسله ويتمم عملهُ. وهذا قادهم لرؤية ما هو روحي، انظروا الحقولَ أنها قد ابيضَّت للحصاد في عدد ٣٥. ثم يأتي الحديث التالي في الأعداد ٣٦-٣٨ "وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَرًا لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعًا. لأَنـَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِدًا يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنـْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ." مَنْ هم هؤلاء الذين تعبوا بحيث دخل التلاميذ على تعبهم؟ في الواقع بحسب سياق النص، إن الذين تعبوا هم يسوع والمرأة السامرية! نعم، تحدَّثَ يسوع مع المرأة السامرية وقاد ذهنها إلى الأمور الروحية لحظة بلحظة. انتهى الحديث بالإفصاح للسامرية عن هويته الحقيقية، مما أدّى إلى إيمانها به وعلى الفور ذهبت وبشَّرَت أهل مدينتها. "فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنـَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ»."
عندما وصل إليه السامريون طلبوا إليه أن يمكث عندهم. وهنا يأتي دور الحصّادين (التلاميذ). هذا واضح من خلال قول يسوع لهم: "آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم." (ع ٣٨) وهنا نفهم معنى قوله لهم: يفرح الزارع والحاصد معًا. فهم سوف يشتركون في حصاد هذه النفوس إلى الحياة الأبدية!
أعود مرة ثانية إلى طرح السؤال الذي طرحته في بداية المقال، مَنْ هم الساجدون الحقيقيون؟ والجواب واضح من سياق النص، وهويتهم هي كالتالي: كُلّ مَن يعمل مشيئة الله ويتمّم عمله فهو يسجد لله بالروح والحق، ويشمل:
يسوع الذي كان يصنع مشيئة الآب الذي أرسله ويتمم عمله. والمرأة السامرية التي آمنت وطبّقت إيمانها بشكلٍ عملي، والتلاميذ الذين طلب منهم يسوع أن يُصلّوا ويطلبوا من الآب أن يُرسِلَ فعلةً لحصاده. والآن الفرصة متاحة لهم ليجنوا الثمر المتمثل بالنفوس التي خرجت لتسمع يسوع! فيكونوا هم استجابة الآب لصلاتهم، هم الفعلة في هذا الكرم (المدينة السامرية)!
فما هو عمل الله؟ إنه الاستماع إلى كلمتِهِ وطاعتها عن طريق الكرازة، والمتابعة وهنا يكون السجود الحقيقي للآب بالروح والحق.
الخلاصة: أنت لا تستطيع أن تسجد لله بالروح والحق، وفي نفس الوقت لا تطبق كلامه وتضعه محل التطبيق. الزارع والحاصد هما مَنْ يسجدان لله بالروح والحق وهما مَن يقومان بتطبيق كلمة الله وبالتالي يفرحان معًا.
متى يكون هذا الفرح المُشتَرك؟ عندما يخلص الناس ويثبتون في الحق، هذا هو الفرح الأوَّلي. وعندما نرى تعب أيدينا والثمر الذي جنيناه معنا في السماء – ملكوت الله – في الاحتفال الكبير في المأدبة السماوية، هذا هو الفرح الأخير.