"وأما اللسان، فلا يستطيع أحد من الناس أن يذلّله." (يعقوب 8:3)
خرجت بعثة دانماركية إلى الأصقاع الشمالية بحثًا عن أجساد موتى لبعثة أخرى كانت قد تقدّمتها إلى القطب الشمالي لاكتشافه. وقد ظلت هذه البعثة زهاء سنتين ونصف ولم يسمع العالم شيئًا من أخبارها.
شهد أفرادها الموت بعيونهم أكثر من مرة. فقتلوا بالرصاص آخر كلب من كلابهم لأكل لحمه... واجتازوا اختبارات مضنية وقاسية.
كتب رئيس البعثة في مذكراته اليومية أن عدوّهم الألدّ لم يكن البرد القارص الذي شوى أطرافهم، ولا نفاد الزاد الذي أضمر بطونهم، بل ذلك الصمت الرهيب في تلك الأصقاع الجليدية. ولم يكن لهم ثمة علاج من هذا الضنى غير الحديث، أي الكلام...
فالكلام بين الناس هو بلا شك من وسائل السلوى. وليس في الكلام بالذات شيء من العيب إذا لم يبلغ حدّ التطرّف المعيب، أو ينحرف عن القصد الكريم والمعنى الحسن. إنما الذي يمجّه الذوق ويأباه الدِّين من الكلام هو ذاك القيل والقال... تلك الإشاعات والروايات الكاذبة التي يختلقها الثرثارون لفضح معايب الناس وإظهار نقائصهم، وهتك أسرارهم وأعراضهم. هذه عادة قبيحة ذميمة في أحاديثنا ومجالسنا وبتعبير آخر، هذا هو سوء استعمال اللسان. وفي آية موضوعنا، والفصل الكتابي الذي أُخذت منه نرى الرسول يعقوب يحذّر من أخطاء اللسان.
اللسان صغير الحجم كبير العمل
يشبّه الرسول يعقوب، أخو الرب، اللسان بثلاثة أشياء: لجام الخيل، الذي وإن كان صغير الحجم لكننا نضعه في فم الحصان فيطاوعنا لندير جسمه كله. واللسان يشبه دفّة السفينة، وهي صغيرة، ولكنها تقدر أن تدير السفينة كلها، بالرغم من شدة الرياح وقوة العاصفة. - واللسان يشبه النار القليلة، التي تقدر أن تحرق وقودًا كثيرًا. وبالرجوع إلى النص الأصلي لهذا التشبيه نرى أن المعنى هو أن النار القليلة تحرق غابة كبيرة!
إنه عضوٌ صغيرٌ يفتخر متعظّماً
به افتخر نبوخذنصّر الملك قائلاً: "هذه بابل العظيمة التي بنيتها... بقوة اقتداري ولجلال مجدي." (دانيال 30:4) وبه افتخر هيرودس حتى سمع الناس يقولون عن كلامه: "هذا صوت إله لا صوت إنسان!" (أعمال 22:12) باللسان جدّف الناس على المسيح المصلوب... وبه قال بطرس للمسيح: "إني مستعدّ أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت!" (لوقا 33:22) وبنفس اللسان أنكر المسيح قائلًا: "لست أعرفه".
اللسان صغير الحجم... لكنه كبير العمل! فإن الموت والحياة بيد اللسان كما يقول سفر الأمثال: "الموت والحياة في يد اللسان، وأحباؤه يأكلون ثمره." (أمثال 21:18)
يصف الرسول يعقوب عمل اللسان الكبير بأنه:
1- نار أو مثل النار الذي يمتدّ تأثيره إلى بعيد. كل أعضاء الجسد تأثيرها محدود، أما اللسان فتأثيره غير محدود. قد تخطئ وتضرب بيدك شخصًا، لكن هذا أبسط من الكلام القاسي الذي تقوله عن هذا الشخص. وما أجمل قول شكسبير: "إن الذي يسرق كيس نقودي، إنما يختلس شيئًا تافهًا. كان المال لي فغدًا له، وكان من قبل مُلكًا لغيري وغيره. أما الذي يسلبني كرامتي وشرفي وحسن سمعتي بين الناس، فهذا يسلب ما يفقرني ولا يغنيه!"
كلمة واحدة تخرب بلدًا أو بيتًا، وتوقع الناس في خصام وحرب... تجعل الزوج والزوجة والأولاد في جحيم!
اللسان مثل النار لا تقدر أن تُحكم تأثيره بسهولة. في حِكمه يقول القدماء:
"ثلاثة لا ترجع: سهم ترميه، وفرصة تضيعها، وكلمة تقولها."
يُروى عن سيدة في إحدى القرى أنها أشاعت قصة خاطئة عن جارةٍ لها. وحين أرادت الاعتذار طلب منها القسيس أن ترمي الريش في الهواء، ثم تحاول أن تجمعه. وعندما عجزت عن جمعه، قال لها القسيس: "كلامك ملأ البلد... من يجمعه؟"
قصة باطلة، أو إشاعة كاذبة تخرب بيت إنسان وينتشر تأثيرها بدرجة يصعب وقفه!
2- اللسان عالم الإثم: وكلمة "عالم" معناها "العالم بدون الله" أو "العالم الذي يثور على الله". اللسان عالم كامل مليءٌ بالشر والإثم. يُروى عن القديس أغسطينوس أنه علّق على جدار غرفة مائدته هذا الشعار: "من ينطق بكلمة شريرة ضد إنسان غائب، فهو غير جدير أن يُرحّب به إلى هذه المائدة."
3- اللسان يُدنِّس الجسم كله: وقد قال المسيح: "ليس ما يدخل الفم ينجّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجّس الإنسان." (متى 11:15) وقد قال الحكيم: "الجواب الليّن يصرف الغضب، والكلام الموجع يهيّج السخط. لسان الحكماء يحسِّن المعرفة، وفم الجهّال يُنبِعُ حماقة." (أمثال 1:15-2)
4- اللسان يُضرم دائرة الكون: ويُضرم من جهنّم. كلمة واحدة من اللسان تشعل الحرب في العالم كله وتحرقه. في الحرب الماضية اهتمّ المحاربون بصنع الغازات الخانقة للفتك بأعدائهم. ويُقال إن كمية كبيرة من هذا الغاز بقيت دون استعمال بعد الحرب في مصنع من مصانع الذخيرة في مدينة "كولون" بألمانيا. وقد أراد شيوخ المدينة إحراق هذه الكمية المتخلّفة من الغاز الخانق، ولكن أهل المدينة اعترضوا على إحراقها لأن دخانها يتلف الزرع ويؤذي الأشجار والنبات. دفنوها تحت الأرض، لكنهم اضطروا بعد قليلٍ إلى إخراجها لأنها أضرّت بموارد المياه في بطن الأرض. فشل اقتراحٌ في إغراقها في البحر بسبب خطورتها. وأخيرًا استقرّ الرأي على دفنها في قبور تحت الأرض مصنوعة من الإسمنت المسلّح في أرض سبخة، على أن تبقى هذه القبور مقفلة مدة خمسين عامًا.
ما كان أهون أن يصنع الناس هذا الغاز الخانق، وما كان أصعب أن يتخلّصوا منه! كذلك هيِّنٌ أن ينزلق اللسان في الحديث بكلمة ضارة، ولكن من العسير جدًا إبراء لسعة هذه الكلمة أو التخلّص من آثارها فيما بعد!
نار اللسان من نار جهنم. وجهنّم كانت اسم مكان يلقي فيه اليهود جثث الحيوانات الميتة، ويرمون فيه الأوساخ، ثم يشعلونها بالنار. وكانت النار دائمة الاشتعال في هذا المكان ليل نهار، تخرج منه الرائحة الكريهة. وقد أطلق اليهود اسم هذا المكان على مكان العذاب الذي هو الجحيم. وليس غريبًا على اللسان أن يأخذ شرّه من جهنم، لأنه يجدّف على الله، وعلى الروح القدس، وينكر السيد الوحيد الله وربنا يسوع المسيح.
5- اللسان لا يمكن تذليله: استطاع الناس تذليل الوحوش والطيور والزحافات. لكن اللسان لا يستطيع أحد تذليله. إنه دائم الثورة، غير مستقرّ، لا يعتمد عليه، هو أخدع من كل شيء، وهو نجيس، لأنه يُظهر ما في القلب النجيس!
النباتات تخضع لقانون ثابت، وهو أن كل نبات يُعطي ثمرًا من جنسه. فلا تستطيع زيتونة أن تصنع تينًا... لكن اللسان يختلف فيخرج البركة واللعنة معًا. "به نبارك الله الآب، وبه نلعن الناس الذين قد تكوّنوا على شبه الله." (يعقوب 9:3)
من فم يوحنا سمعنا كلام المسيح المحب، ومن نفس الفم سمعنا طلب النار على البلد التي لم تقبل المسيح (لوقا 51:9-56). باللسان نحمد الله ونباركه... وبنفس اللسان نلعن الناس الذين خلقهم الله على صورته كشبهه. شكرًا لله أيها الأحباء لأنه يمنحنا قوة استخدام اللسان في المفيد.