"شدّدي أوتادك، لأنك تمتدِّين إلى اليمين وإلى اليسار." (إشعياء 2:54-3)
استوقفتني لوحة جميلة من صنع رسام ماهر لبعض الوقت رحت أتأمل فيما ترمي إليه. كان الرسم أمامي على شكل خيمة يبدو أنها تمثل مبنىً كنسيًّا غايةً في الجمال.
وكانت الخيمة ترتكز في داخلها على عمود قوي مغروس في الأرض، ومحيط الخيمة وأردافها مُثبتة بأوتاد منيعة تُحيط بها لتقيها من عنف رياح هوجاء تهدد أمنها.
وفي أعلى المشهد حزمة إشعاع ذهبي تُسلط الضوء على كلمات تحتها تقول: "أوسعي مكان خيمتِكِ، ولتُبسط شُققُ مساكنِكِ. لا تُمسكي. أطيلي أطنابَكِ وشدِّدي أوتادَكِ، لأنك تمتدّين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلُكِ أُممًا، ويُعْمِرُ مُدُنًا خربة لا تخافي... كلّ آلة صُوِّرت ضدّكِ لا تنجح، وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه." (إشعياء 2:54-4 و17)
مشهد رائع، والكلمات أروع! وفتحت الكتاب المقدس على سفر إشعياء 54 لأتمتَّع أكثر بما تعنيه تلك الكلمات... وبقراءة متأنّية بدا واضحًا أن الوحي هناك يشير إلى شخصيتين تختلف الواحدة عن الأخرى، ويُميّز الوحي بينهما بتدقيق. فالشخصية الأولى يصفها الوحي بالعاقر المستوحشة التي لا تتمخّض إذ ليس لها بعل... فهي بهذا الوصف، وثنية أممية لا تنتمي لله. أما الثانية فلها بعل ولها بنون، وبعلها الذي تنتمي إليه هو الله، وصفٌ ينفرد به شعب العهد القديم في زمن كتابة السفر.
وتساءلت: من المقصود بحمل المهمة التي ينادي بها هذا الخطاب؟ هل العاقر الوثنية أم الأخرى العبرانية! وخلال البحث شدّ انتباهي أن الوحي في الأسطر الأولى من ذات الأصحاح يخاطب العاقر، وثنية الجذور، بكلمات تثير العجب يقول لها: "أشيدي بالترنم (أيتها العاقر) ... لأن بني المستوحشة (بنيك) أكثر من بني ذات البعل (العبرانية)." وتساءلت من جديد: كيف لعاقر وثنية أن تترنم لله وتُشيد بالتسبيح؟ وكيف وهي عاقر لا تُنجب، يصير لها بنون أكثر من بني ذات البعل؟ التفسير الوحيد لهذا المشهد المثير للعجب، أن العاقر، حسب علم الله السابق، قد تعرفت على الله وتصالحت معه فباركها وبارك في نسلها حتى فاقت على جارتها ابنة العهد القديم بكثرة البنين. ولأن الله سُرّ بها، دعاها أن ترفع الصوت عاليًا وتُشيد بالترنم ابتهاجًا بخلاصها وخلاص نسلها! أما جارتها فبقيت على حالها!
وواصل الوحي حديثه لتلك العاقر: "أوسعي مكان خيمتك (كي يتسع لملايين قادمة من ثمار خدمتك) ... لأنك تمتدّين إلى اليمين وإلى اليسار (بين الشعوب لنشر الخبر السار بين الأمم)". وساءلت نفسي: أين شعب العهد القديم من هذا؟ فسفر إشعياء سفر نبوي من أسفار العهد القديم، ويُفترض أن السفر يُخاطب شعبه بهذه المهمة. فلماذا اتجه الخطاب للعاقر يدعوها للتمدّد والتوسّع في كل اتجاه وجارتها (العبرانية) مركونة في زاوية لا تخرج منها؟
المشكلة هنا تكمن في أن المؤسسة الدينية لشعب العهد القديم لا تنسجم مع التوسّع لدعوة الشعوب لتُعرفهم بالله الحي الذي ينتمون إليه. فهم في كل تاريخهم لا يهتمون بخدمة كهذه، وكأن الله لهم وحدهم لا يختص بغيرهم. مع أنه يقول: "بيتي بيت الصلاة يُدعى لكلِّ الشعوب." (إشعياء 7:56) وكمثال نورده هنا: كلف الله يونان وهو أحد أنبيائهم للذهاب إلى نينوى الغارقة بالشر والتي تنتظرها دينونة مُرعبة، وكان على يونان أن يدعو أهل نينوى للتوبة والرجوع إلى الله - ونينوى ليست يهودية - فاستاء يونان، وحاول التهرب من المهمة، فاستقل سفينة ذاهبة إلى ترشيش، ودفع أجرته، وفي البحر أدّبه الله فبلعه الحوت ورمى به لاحقًا إلى الشاطئ وأذلّه.
فهم لا يشاركون الغير بما لديهم من إيمان... وعزلوا أنفسهم دينيًا عن جوارهم الوثنيين، وتزاوجوا أحيانًا بوثنيات، وتأثروا بعباداتهم، ومنهم أخآب ملك البلاد، فهذا تزوّج بإيزابل الوثنية التي عملت على نشر عبادة الأوثان في المجتمع اليهودي، وأخآب نفسه عبد البعل وسجد له (1ملوك 16)، كما أن كهنة منهم وبخهم عزرا بشدة بعد عودته من السبي إذ وجدهم فد تزوّجوا من وثنيات. ولو انتقلنا إلى زمن العهد الجديد أثناء وجود المسيح بينهم، نجدهم انتقدوه لأنه جالس الخطاة ليقودهم إلى التوبة كما فعل مع السامرية، فرد عليهم: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى."
يخبرنا إنجيل لوقا 19 عن زكا رئيس العشارين في مدينة أريحا، الذي سمع عن المسيح وتمنّى أن يلمحَ وجهه، فنزل إلى الشارع ليراه، فوجد الجموع تحيط بيسوع، وزكا قصير القامة فلم يتمكّن من رؤيته، فأسرع وتسلّق شجرة جمّيز قريبة كان الموكب سيمرّ من تحتها في الطريق، وعندما اقترب الموكب، نظر يسوع إلى فوق ورآه فقال له: "يا زكّا، أسرع وانزل، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك." (لاحظ معي يا قارئي الكريم أن يسوع لم يلتقِ بزكا من قبل. فكيف عرف اسمه؟ (سرٌّ يجهله الكثيرون خارج الوسط المسيحي) ونزل زكا فرحًا واستقبل المسيح في بيته، وأثناء اللقاء اعترف زكّا بذنوبه وآمن هو وأهل بيته. فقال اليهود: دخل ليبيت عند رجل خاطئ! فالخاطئ عندهم منبوذ، لا ينبغي التعامل معه لإصلاح حاله. فدعوة التوسُّع في الخدمة الروحية خارج الدائرة الضيقة التي يعيشون فيها ليست من اهتماماتهم. فخطاب التوسّع انصبّ على كنيسة العهد الجديد، وقبلته الكنيسة المتمثّلة بالعاقر الأمميّة الراجعة إلى الله، ونحن من ثمار خدماتها، أتينا إلى الرب من خلفيّاتٍ متعدِّدة - أمميّين في ماضينا من قبائل الشعوب - وعندما وصلتنا الرسالة فتحنا قلوبنا للمسيح وصرنا من شعبه، وها هي الكنيسة اليوم تغطّي وجه الأرض ببشارتها، أما جارتها (العبرية) فبقيت على حالها خارج السرب.
من جهة أخرى، يتوقّع البعض، ونتوقّع معهم، أن هذه الأمة ستستفيق يومًا من كبوتها وتقبل المسيح ربًا وفاديًا. إنما المهم أن ندرك أنه لو حصل ذلك في أي وقت، لن تكون تلك الأمة في كيان منفرد ومستقل لتُمارس ما يدعو إليه أصحاح 54 من سفر إشعياء! بل ستلحق بالركب وتندمج بكنيسة المسيح القائمة أصلًا، لتكون معها في كيان واحد للمناداة بالإنجيل. إذ لا يوجد لدى الله كنيستان يتعامل مع كل منها على انفراد، واحدة من خلفية أممية، والأخرى من خلفية عبرانية. فالرب واحد وكنيسته واحدة تضمّ كافة المؤمنين الحقيقيين من أي خلفية كانوا.
ومن جهة أخرى، فالله إله الكلّ: إله الإسرائيليين الخارجين من مصر في زمانهم، وإله راعوث الموآبية، (غير اليهودية) التي قبلت الرب وصارت من شعبه، وإله راحاب الوثنية من أريحا بعد أن التقت برجال يشوع وسمعت منهم وآمنت وانضمت لشعب الرب، وإله نعمان السرياني من خلفيته الوثنية بعد إيمانه، وإله شعب نينوى الذي اهتم الرب بنجاته (مع أنهم ليسوا يهودًا)، وهو نفسه إله جميع الشعوب، إنما المهم والمهم جدًا أن من يفتح قلبه له ويتقبّل خطته للخلاص بدم المسيح يصير من شعبه، وينال حياة أبدية!
ونعود من جديد إلى تلك العاقر، وثنية الجذور فقد وصفها بولس الرسول قبل إيمانها (رومية 11) بزيتونة برية، لا ثمر لها. لكن عندما استفاقت من وثنيتها، مدّ لها الرب قضيب الذهب، كما فعل أحشويروش الملك مع أستير (أستير 5) فدخلت في حجاله، وطعّمها بغصن زيتونة مباركة، امتدّ فرعها من زمن أبينا إبراهيم حين قال له: "وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض." (التكوين 3:12) والوعد شملها!
أما جارتها العبرانية... فاستمرت على حالها متراخية مكتفية بذاتها... ولعل في هذا عبرة لكثيرين من المسيحيين المتراخين الذين اكتفوا بانتماء شكلي لكنيسة ما بلا توبة، وبلا قراءة الإنجيل، ولا حضور كنيسة، ولا سماع مواعظ، وإلخ ... مجرّد انتماء!
الجارة العبرانية التي أشرنا إليها (والشهادة للحق) مئات الألوف من شعبها عبر التاريخ، فتشوا الكتب وتواصلوا وبحثوا باهتمام إلى أن وصلوا للحقيقة، والحقيقة قادتهم للمسيح فانضموا لمسيرة الإنجيل، وصاروا إخوة لنا بالإيمان، نعتزّ بهم...
سبق أن أشرت في مقال آخر أن في فلسطين اليوم بعض كنائس محلية، كل شعبها يهود مسيحيون مفديون بدم المسيح، ويتمتّعون مثلنا ببهجة الخلاص.
في الختام، الآية 13 من أصحاح 54 ... تتكشّف عن هوية من يُخاطبها الوحي، فتُزيلُ الإبهام لو وُجد، فالآية تخاطب الكنيسة بلغتها المميزة، وهي لغة نعرفها نحن أبناء العهد الجديد، إذ تقول: "وكلَّ بنيك تلاميذ الرب، وسلامَ بنيك كثيرًا." إن عبارة "تلاميذ الرب" مصطلح إنجيلي بحت، لم يرد له مثيل في كل أسفار العهد القديم إلا هنا، لأنه يُخاطب الكنيسة التي لبّت النداء، وتوسّعت وامتدّت إلى كل أطراف الأرض استجابة لدعوة الرب يسوع الذي أوصى: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها."
ومبشِّرو الكنيسة في تجوالهم بين الشعوب لم يحملوا عصًا في وجه أحد، فمن قَبِل الرسالة رحّبوا به وباركوه، ومن تجاهلها لم يعادوه. وهكذا انتشرت المسيحية بين الشعوب وغطّت قارات بأكملها!