بعد أن استعرضنا بعضًا من الفلسفة الكتابية المحيطة بالحياة وبثقافتها، لا بدّ لنا إلاّ وأن نتطرّق إلى موضوعٍ هامٍ جدًا يتعلّق بفكر إنهاء الحياة
لأسبابٍ موجِبة كالمرض، أو الشيخوخة، أو الترهُّل، أو الغيبوبة، الأمر المعروف في الأوساط العلمية والطبية بالموت الرحيم، أو Euthanasia.
لم أسمع قبلاً بموضوع الموت الرحيم أو حتى ماذا يعني إطلاقًا في حياتي، بل أذكر عندما كنت أتابع دراستي في الجامعة الأمريكية في بيروت، أنه طُلِب مني تقديم بحثٍ مفصّل عنه عُرِف بالإنكليزية Euthanasia. مقتنعًا بأهميته في مجتمعاتنا المعاصرة، لم أتردّد أبدًا، فكان هذا ربما من أخطر المواضيع بل وأمتعها للدراسة والتحليل تناولته في حياتي.
مفاهيم اجتماعية وكتابية حول الموت الرحيم
إنّ أهمّ سؤالٍ يُطرح حول هذا الأمر هو هذا: هل يحقُّ لأيّ فردٍ يعاني من مرضٍ عُضال وفي مراحله النهائية، أو Terminal Illness، أن يُنهيَ حياته بإرادته تجنُّبًا للألم؟ وهل يستطيع الجسم الطبيّ والعائلة أن يأخذا قراراتٍ مماثلة في حالة الغيبوبة عند المريض الذي بدوره لا يستطيع أن يأخذ أيّ قرارٍ في هذا الشأن؟ كيف ينظر المجتمع المعاصر إلى الموت الرحيم، وهل هناك قوانين مشرّعة تحمي قدسية الحياة، وما هي نظرة الكتاب المقدّس في هذا الأمر البالغ الأهمية؟
إنّ الجدل الواسع حول الموت الرحيم، أو كما يُعرّف أحيانًا بالانتحار السهل، له تشعُّباتٍ كثيرة أدخلت مجتمعاتنا في متاهاتٍ لا حدّ لها. سوف أشير باختصار إلى أهمّ النظريات المرافقة لموضوع المساعدة على الانتحار من منظورٍ اجتماعيّ وطبيّ ونفسيّ وروحيّ أيضًا:
أولاً: هل الموت الرحيم إراديّ أم خلاف ذلك؟ مثلاً، لنأخذ شخصًا ما في غيبوبة دائمة ولا يمتلك الإرادة في أخذ القرار، مَن يستطيع أن يُقرّر بالنيابة إنهاء حياته؟
ثانيًا: هل الموت الرحيم فعلٌ شخصيّ – أي، هل يمكن للفرد في حال الوعي الكامل أن يأخذ القرار بإنهاء حياته هروبًا من الألم ولضمان أمان العائلة الاجتماعيّ والنفسيّ؟
ثالثًا: هل الموت الرحيم تلقائيّ أم مُبرمج أو مُخطّطٌ له؟ مثلاً، هل هو قرارٌ شخصيّ أم عائليّ أو هو في يد الجسم الطبيّ أو المشرّع؟ مَن هو المخوّل أن يأخذ القرار في هذا الشأن ومَن يتحمّل نتائجه الشخصية والجنائية؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ لي إلاّ وأن أحصُر الموت الرحيم بسيناريو يقوم فيه الطبيب المعالِج بحقن المريض بمادّةٍ قاتلة بناءً على طلبه أو مَن ينوب عنه حتى يُنهيَ حياته وعذابه من مرضٍ لا أمل بشفائه. إنّ ردّة الفعل الأولى لهذا الأمر هي الاستهجان، وأنصح بالتالي خلاف ذلك. إنّ كنا نؤمن بالكلمة الإلهية وبقصد الله في الحياة وقدسيتها، لا بدّ لنا أن نُدرك أنّ إنهاء الحياة سواء بقرارٍ شخصيّ أم جماعيّ أو مجتمعيّ، حتى لو كان محميًا بالقوانين المرعية الإجراء، هو عملٌ لا ينسجم إطلاقًا مع الفكر الإلهيّ في علاج الأمراض وآفات الصحّة العامّة. ومع تقدُّم الطبّ والعلوم المعالِجة، يستطيع العِلم الحديث تقديم المساعدة الطبية اللاّزمة لتخفيف الألم عند المريض الذي يعاني في أيامه الأخيرة، وبالتالي إعطائه الفرصة كي يموت بسلام.
يقول الكتاب المقدّس على فم الرسول بولس كلماتٍ مؤثّرة في هذا الخصوص يتردّد صداها وتأثيرها في أثير ممارسات الموت الرحيم اللاأخلاقية: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." (رومية 28:8) وهو الذي وعد بأنّ الألم والموت سينتفيان في يومٍ من الأيام – "وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لَا يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلَا يَكُونُ حُزْنٌ وَلَا صُرَاخٌ وَلَا وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الْأُولَى قَدْ مَضَتْ." (رؤيا 4:21) وإلى أن يجيء ذلك النهار، وفي عالمٍ منكسر ومليء بالتعب والأحزان، نختبر الفرح الحقيقيّ والسلام الداخليّ حتى في شدّة الألم، فالله يستخدم الألم لبنياننا ولتعزيتنا في الإيمان. قد تكون آلام الإنسان جسدية أو نفسية وجراحات الحياة ما أكثرها ومعظمها لا نستطيع أن نفهمها، إلاّ أن قصد الله لنا هو العبور في رحلة الحياة بنجاحٍ واطمئنان وإن تحمّلنا مشقّاتها وأوزارها الكثيرة.
وقد تكون هذه الظروف الصعبة التي نمرُّ بها كالألم في مراحل الحياة الأخيرة جزءًا من طبيعة الحياة التي يستخدمها الله لصقل شخصياتنا وتحضيرها كاملةً في الطاعة وقداسة الحقّ.