إن مجيء المسيح ثانية متوقَّعٌ الآن أكثر من أي يوم مضى.
ولحظة الاختطاف وصورة الأحداث الناتجة عنه، وانسحاب الروح القدس من أجواء الكرة الأرضية، كل هذه ستعني تفريغ الأرض من أهل الرحمة الذين قال عنهم المسيح: أنتم ملح الأرض. أنتم نور العالم. فعندما يغيب الملح من أشهى وجبة طعام، وعندما يغيب النور من مجتمعات الناس، ماذا يبقى من جمال؟! والأهم من هذا كلّه هو غياب الروح القدس من جرّاء انسحاب الكنيسة من العالم في الاختطاف.
فوجود الروح القدس اليوم في العالم من خلال المؤمنين المفديين عامِلٌ ملطِّفٌ لأجواء الحياة، وهو عاملٌ مثبِّتٌ لوجود الرحمة بين الناس ولو بأضعف صورها، لأن من أعمال الروح القدس في الناس: أن يتعامل مع ضمائرهم، فيبكّت، ويؤنِّب، ويدعو للرحمة والتودُّد، والتعاطُف لأعمال الخير، والشفقة، والتعاون بين الخلق. كما يدعو للتوبة، والندامة، والتراجع عن الشر، واللجوء إلى الله لطلب الرحمة والغفران.
فانسحاب الروح القدس - الذي هو الله الروح - يعني كارثة بالنسبة للعالم. فهذا يسبِّب جفاء بين أرواح البشر، ويرسِّخُ بطلان مشاعر الرحمة بين الناس. فإن كنا اليوم ومع وجود الروح القدس في العالم نعاني من الوحشية المتمثَّلة بالحروب والعدوانية، والجريمة، والإرهاب، والخيانة، والخداع، وصور المكر، والسلب، والنهب، والجشع، والاستغلال، وغير ذلك من صور الأذى والرعب الذي تتعرّض له الشعوب والأفراد في كلِّ المجتمعات البشرية، فكيف ستكون الحالة إذًا بعد غياب روح الله عن الكرة الأرضية بحلول الضيقة العظيمة؟!
لاحظ معي قارئي العزيز أن العالم في هذه السنوات الأخيرة يتسارع نحو تلك الصورة المريبة، وكأن العالم في تسارعه المريب نحو الشر في هذه الأيام يهيئ نفسه لاستقبال تلك الحالة المرعبة من التخبُّط وفقدان النور.
قال أحدهم: تتحدّثون عن الاستعداد لمجيء المسيح في آخر الأيام. ماذا يعني الاستعداد أكثر من أني أقوم بالواجب الديني من صلاة، وصوم، وزيارة الأماكن المقدسة؟
فقلت: الصلاة والصوم وأمثالها مطلبٌ حقّ، لكن ما أكثر الذين يصلّون ويصومون ليس تعبُّدًا بقدر ما هو لتسكيت ضمائرهم المحتجَّة في دواخلهم بسبب ما يرتكبون من عيوب. فالصلاة حينها تعمل عمل إبرة التخدير التي تُعطى للمريض كي لا يشعر بالألم، مع أن المشكلة الصحيّة ما زالت قائمة.
كثيرون يتعاملون مع الله كما يتعامل الإنسان مع التاجر في السوق... فهم يرتكبون الإثم الذي يرغبونه ثم يقومون للصلاة، وكأنها مبادلة مع الله. هذه بدل تلك! وأقولها بصراحةٍ تُعجِبُ البعض أو لا تعجبهم:
فالصورة التي ذكرت تفسِّر لنا لماذا نجد أفرادًا يعيشون الصلاة ويؤدون كل طقوس العبادة المظهرية، ويفتقرون إلى السماحة والأخلاق الحميدة!
وهذا أيضًا يفسّر لنا لماذا يتدنّى المستوى الأخلاقي بين بعض الذين يُعَدُّون من المصلّين المتعبِّدين الممارسين للواجبات الدينية! يقول الوحي في إنجيله في رسالة يعقوب: "ألعلّ ينبوعًا يُنبِعُ من نفسِ عينٍ واحدة العذبَ والمرَّ؟ هل تقدر... تينةٌ أن تصنع زيتونًا، أو كرمةٌ تينًا؟ ولا كذلك ينبوعٌ يصنع ماءً مالحًا وعذبًا!"
وقال القدوس الطاهر يسوع: "مِنْ ثِمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبًا، أو من الحسك تينًا؟"
أيها المتعبِّد، كيف تترجِم السماء تقواك؟ ولماذا أنت في تقواك وتعبدك تبغضُ وتتعصّب ضدَّ كلّ من لا يسلك في دربك ومن يهتدي بهديِك؟ ولماذا لا تتمثّل بالله المحبّ العطوف الحنون، فهو لا يتحيّز بحبِّه وحنانه وعطائه، ولا يمطر على حقلك لأنك من أتباع الله الصالحين - كما ترى نفسك - ثم يحرم حقل جارك لأنه ليس من أهل الصلاة، أو إنه لا يتبع ما تتبع ولا يؤمن بما تؤمن. فرحمةُ الله وعدله وإحسانه تصنع الخير لكل الناس، الشرير والصالح، المؤمن والكافر. أما جزاؤه لهذا أو ذاك فله يومه الذي لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، فلماذا تستبِقُ الأحداث وتنصِّب نفسك ديَّانًا للبشر؟ تصّنفهم من ذات اليمين ومن ذات اليسار، وتحمل بيدك عصًا ظالمة تحكم بها على الناس من حولك، وتنسى عيوبك فتدين غيرك وتسلب حقوقهم، وتدّعي التقوى والانتماء لله؟ وهل الله غافلٌ عما تصنع! عن مثل هذا قال الحق في إنجيله: "لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنَّكم بالدينونة التي بها تَدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم."
أمامي الآن كلمات مضيئة من إنجيل لوقا الأصحاح السادس يقول فيها المسيح القدوس لمؤمنيه: "أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم... وكما تريدون أن يفعل الناسُ بكم افْعَلوا أنتم أيضًا بهم هكذا. وإن أحببتم الذين يحبّونكم، فأي فضلٍ لكم؟ فَإِنَّ الْخُطاة أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا. وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فإن الخطاة أيضًا يقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم المثل. بل أحبوا أعداءكم، وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئًا، فيكون أجركم عظيمًا، وتكونوا بني العليّ، فإنه منعمٌ على غير الشاكرين والأشرار. فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم. ولا تدينوا فلا تُدانوا. لا تقضوا على أحدٍ فلا يُقضى عليكم. اغفِروا يُغفر لكم. أعطوا تُعطَوْا. كيلًا جيِّدًا ملبَّدًا مهزوزًا فائضًا يُعطُون في أحضانكم. لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم."
عزيزي القارئ، المسيح قادمٌ ثانية... وفي قدومه سيعزل الخراف عن الجداء، وسيفصل القمح عن الزوان... فعلى كلٍّ منا أن يعرف موقعه في أيٍ من الفريقين هو. وهذه كلمة مخلصة لك، لتفكّر بها، وتستعّد، قبل أن يداهمنا اليوم ونخجل منه عند مجيئه!