المجهود الدائب الذي يبذله الكثيرون من القادة الدينيين لكي يوفّقوا بين المسيحية والفلسفة البشرية الخاضعة للمنطق الطبيعي إنما هو مجهود ضائع،
لأن المسيحية تسمو فوق مستوى الفكر البشري وتحوي في داخلها خصائص تبدو للذهن البشري متناقضة ولا تخضع للمنطق الطبيعي، إن قوة المسيحية تكمن في تناقضها – وليس توافقها – مع طرق الإنسان الساقط!
في قلب المسيحية يوجد صليب المسيح بتناقضه الإلهي، إن مجد الصليب يظهر في جمعه للمتناقضات التي لا يستطيع الذهن البشري أن يجمعها معًا، وشهادة الكنيسة تكون أكثر تأثيرًا عندما "تعلن" الحق الإلهي كما هو وليس عندما تحاول أن [تشرح] هذا الحق للذهن البشري الضيِّق، وذلك لأن الإنجيل هو [إعلان] مقدَّم لكي نقبله بالإيمان وليس [تعليمًا] خاضعًا للشرح والتفسير، لأن كل ما هو قابل للشرح والتفسير لا يحتاج للإيمان لكي نقبله، إن الإيمان يستريح على إعلان الله وليس على براهين الفلسفة والمنطق.
يقف الصليب ضدّ الإنسان الطبيعي، فلسفة تسير بعكس فلسفة الذهن البشري، لذلك قال بولس إن الكرازة بالصليب للهالكين جهالة، ومحاولة إيجاد أرض مشتركة بين رسالة الصليب وذهن الإنسان الطبيعي هي محاولة إيجاد المستحيل، وإذا أخضعنا المسيحية والصليب للذهن البشري الساقط فستكون النتيجة صليبًا بلا معنى ومسيحية بلا قوة.
لكن دعونا ننزل بالأمر من مستوى الكلام النظري إلى مستوى السلوك العملي، ودعونا نراقب مسيحيًّا حقيقيًّا بسيطًا وهو يمارس عمليًّا تعاليم المسيح وتلاميذه، ولنلاحظ المتناقضات التي يحتويها هذا المسيحي العجيب في حياته:
المسيحي يؤمن تمامًا بأنه قد مات مع المسيح، ومع ذلك فهو يحيا الآن حياة أفضل من ذي قبل، بل يؤمن أن حياته أبدية ولا يعتريها الموت!
المسيحي يمشي على الأرض بينما هو – في نفس الوقت – جالس في السماويات! ورغم أنه مولود على الأرض لكنه بعد التجديد يشعر بأنه لا بيت له هنا، إنه مثل الطيور التي تبدو في طيرانها آية في الجمال والرشاقة بينما تبدو وهي على الأرض ثقيلة الحركة وعديمة الرشاقة. المسيحي أيضًا يبدو في أجمل حالاته عندما يُحلّق في السماويات، لكنك تجده ثقيل الحركة في سيره في دروب هذه الأرض المقفرة.
المسيحي يعلم أنه إذا أراد أن يعيش منتصرًا كابنٍ للسماء في وسط الناس على هذه الأرض فينبغي ألا يتبع أسلوب الإنسان الطبيعي بل أسلوبًا مضادًا تمامًا؛ ينبغي عليه إذا أراد أن يخلِّص نفسه أن يهلكها، وينبغي أن يفقد حياته لكي يجدها! وهو يفقد حياته عندما يحاول أن يحتفظ بها لنفسه! إنه يتّضع لكي يرتفع، ولو رفض أن يتّضع يصير وضيعًا بالفعل، أما عندما يبدأ الاتضاع فإنه يجد نفسه في طريقه للارتفاع!
المسيحي يكون في أقوى حالاته عندما يكون أضعف ما يمكن! ويكون في أضعف حالاته عندما يشعر بأنه قوي! ورغم أنه فقير إلا أنه يملك السلطان أن يُغني كثيرين، ولكنه إذا شعر بالغنى تتلاشى قدرته على إغناء الآخرين. إنه يمتلك الكثير حينما يعطي الكثير، ويمتلك القليل إذا حاول أن يحتفظ لنفسه بالكثير!
المسيحي يكون دائمًا في أسمى حالاته عندما يشعر أنه في أقلّها، ويكون في أطهر حالاته عندما يزداد إحساسه بخطيته، وهو يكون حكيمًا عندما يشعر بأنه لا يعرف شيئًا، ويكون جاهلاً عندما يستند على معرفته! في بعض الأحيان يفعل الكثير عندما لا يفعل شيئًا، ويتقدّم كثيرًا لأنه وقف في مكانه! في وسط الضغوط يفرح ويحفظ قلبه سعيدًا حتى في شدّة الآلام.
إن مظاهر التناقض تظهر كثيرًا في حياة المسيحي البسيط، فهو يؤمن بأنه مخلَّص الآن، إلا أنه يتوقّع في كل يوم خلاص الرب ويتطلّع بفرح للخلاص الأبدي، المسيحي يخاف الله ولكنه لا يخاف منه! في محضر الله يشعر بالانسحاق والانسكاب ومع ذلك فهو يحب أن يبقى في محضر الله أكثر من الوجود في أي مكان آخر في العالم! إنه يعلم أنه قد غُسّل من خطاياه ومع ذلك فهو يؤمن بأنه لا يسكن في جسده شيء صالح.
المسيحي يحب بشدّة شخصًا لم يره قط! ورغم أنه في حدّ ذاته فقير ووضيع إلا أنه يتعامل بدالّة وألفة مع ملك الملوك ورب الأرباب! والغريب أنه لا يشعر بأي تناقض في هذا لأنه يؤمن بأنه في ذاته أقلّ من لا شيء، إلا أنه في نظر الله شيء ثمين حتى أن الابن الأزلي صار جسدًا ومات على صليب العار من أجله!
المسيحي هو مواطن سماوي وهو يعطي لهذه المواطنة أولويّة الولاء والطاعة، إلا أنه في نفس الوقت يحب وطنه الأرضي الذي وُلد وتربّى فيه حبًّا شديدًا دفع [جون نوكس] أن يصلّي قائلاً: "يا رب، أعطني اسكتلندا وإلا أموت!"
المسيحي حامل الصليب يجمع في أحشائه التشاؤم والتفاؤل في نفس الوقت، فهو عندما ينظر إلى الصليب يصبح متشائمًا لأنه يعلم أن الدينونة التي وقعت على ربّ المجد في الصليب قد دانت في نفس الوقت كل طبيعة الإنسان وأعماله، لذلك فهو يرفض كل عمل صادر من الإنسان لأنه يعلم أن أسمى مجهودات الإنسان ليست سوى تراب مؤسّس على تراب! ولكنه في نفس الوقت متفائل لأنه يعلم أنه إذا كان الصليب قد دان الشرّ فإن القيامة أعلنت انتصار الله النهائي للخير في كل الخليقة، وأنه من خلال المسيح سيصبح كل شيء صالحًا في النهاية، وهو ينتظر هذه النهاية السعيدة بكلّ ثقة وتفاؤل، حقًّا إن المسيحي كائن عجيب!