Voice of Preaching the Gospel

vopg

شدَّ انتباهي في إحدى رحلاتي إلى بلد أوروبي، أن مواطني تلك الدولة هم على أربع شرائح تشكِّل نسيج الوطن،

ولكل شريحة لغتها الخاصة بها، واللغات الأربعة مُعتمَدة لدى الدولة في جميع بياناتها. والشعب بشرائحه الأربعة ينتمون لخلفيات عرقية ودينية متعدّدة فمنهم الكاثوليكي والأرثوذكسي والإنجيلي، لكنهم يتعايشون معًا، لا أحد يضايق الآخر أو يتعالى عليه أو يُكَفِّرهُ في مُعتقده أو يدَّعي الأفضليّة الدينية أو العرقية عليه...
ومررت بمساكن للاجئين من دول شرقية... فهؤلاء رغم اختلاف عرقيّاتهم ومعتقداتهم فحين دخلوا تحت سقف البلد صاروا في أمان يُحتَرَمون ولا يضايقهم أحد.
التقيت بأحدهم وهو شرقي مقيم هناك منذ عشرات السنين ويتحدّث بلغتي، فعبّرت له عن دهشتي فيما أراه من انسجام بين أطراف متنوِّعة!
فقال: لاحظ معي... إن الكتاب المقدس يقول في سفر الأمثال (34:14) "البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية." فهذا الذي أعجبك في دولة كهذه هو المسيحية بتشريعاتها الربانية.
قلت: لا أعتقد أن الجميع هنا ملتزمون دينيًّا.
قال: هذا صحيح لكن لا تنسى أن المسيحية رسّخت مبادئ إنسانية فريدة في أجيالهم مستمدَّة من روح الإنجيل حين كان الناس هنا أكثر تديُّنًا من اليوم، فترسّخت فيهم هذه السلوكيّات التي شربوها مع الحليب ويصعب التراجع عنها. والمناهج المدرسية أيضًا تؤكّد على ذلك، فأطفالهم من البداية ينشؤون على هذا النهج... ولاحظ معي إن المواطنين هنا يحترمون القانون، ويقدّسون النظام العام، فالعملية بالنسبة لهم هي منهج حياة.
فقلت: ونحن في الشرق كما تعلم ندين بديانات لها حضاراتها ومع ذلك نختلف عن هؤلاء!
فقال: هناك حقيقة لا بدّ من إيضاحها أن البعض عندكم سحب البساط من تحت أرجل رجال الدين واتَّخذ موقفًا يعادي به الآخر ويُكفِّر الآخر، فنبت التطرُّف الديني الذي يُلغي الآخر حتى ولو كان الآخر من نفس الانتماء الديني!
فقلت: لماذا سحبوا؟
قال: لكي يكون لهم غطاءً شرعيًّا يصلون به إلى أهدافهم، وهذا زَرَعَ التطرُّف الديني وأدخلَ المجتمعات الشرقية في صراعاتٍ لا تتوقَّف، وما زالت حتى اليوم!
هذا الحوار ذكّرني بحدثٍ مررت به قبل أكثر من ربع قرن، حين عبثتُ يومًا بمؤشر الراديو أثناء فترة استرخاء، وإذ به برنامج ديني غير مسيحي يتحدَّث به أحدهم بلهجة بدويَّة أنا أحبّها، فواصلت الاستماع لعدّة دقائق... وفي لحظة لم أتوقّعها سمعت ما هزَّ مشاعري وآذى مسمعي، إذ في نهاية حديثه ختم المتكلِّم خطابه بشتيمة أصابتني في الصميم بلغة عربية صريحة، شتم بها من وصفهم بالنصارى الكفّار! فأنا عربي مسيحي أومن بربٍّ واحدٍ (صحيح أني لست نصرانيًا، فتلك تسمية لم تعد قائمة، فنحن مسيحيّون ولسنا نصارى) والمتحدّث يخاطبنا كنصارى. والتسمية لم تعد تلصق بنا! والشاهد أن جوازات السفر للمسيحيين في تنقّلهم بين الدول حتى الإسلامية، وكذلك بطاقات هويّاتهم الشخصية، فهذه كلّها لا تحمل كلمة نصراني، ولم يطبِّقها المسيحيون على رعاياهم... بل الغير أطلقها عليهم.
أما الإنجيل فهو من أطلق اسم "مسيحيين" عليهم من القرن الأول، فجاء في سفر أعمال الرسل 26:11 "ودُعِيَ التلاميذ [مسيحيين] في أنطاكية أولًا."
أنطاكية حينها صارت البديل عن أورشليم بعد الاضطهاد الكبير الذي عانوا منه في اليهودية مما اضطرّهم للهروب بعيدًا حتى استقرّوا في أنطاكية في أقصى شمال غرب سورية. والأغرب أن المتحدّث في خطابه شتم النصارى من خلال إذاعة رسميّة لبلده، ودولته تعرف ما يقوله، وفي عالمنا العربي اليوم ما يقارب الخمسة وثلاثين مليون عربي مسيحي في العالم، يمكن لأيٍّ منهم أن يستمع صدفةً أو قصدًا لذات البرنامج ويتأذّى!
أغلقتُ الراديو، وقد انتهى البرنامج على كل حال، وقلت لنفسي: أي نفع قدَّمه صاحبنا هذا لمستمعيه غير زرع الكراهية للآخر، والتعالي على الآخر وشحن التعصُّب ضدّ الآخر!
ذكّرني هذا بحادثةٍ طريفةٍ حدثت معي قبل سنوات، أرويها بكل صدق وأمانة:
خرجت يومًا للقيام بمهمة دينية في يوم جمعةٍ لألقي عظة دينية بالإنجليزية على مجموعة من العمال (مسيحيين كوريّين) يعملون في بلدي، وكانت عطلتهم الأسبوعية في أيام الجُمعة. وبعد أن باشرت قيادة سيارتي قاصدًا الكنيسة، لاحظت في الطريق أمامي عن بعد رجلًا يسير متثاقلًا، يتوقّف أحيانًا وينظر للوراء، فأدركت أنه مُتعب بحاجة للعون. والرجل ملتحٍ يرتدي ثوبًا أبيضًا وعمَّة على رأسه... وحين وصلته توقّفت بقربه وسألته: "يا شيخنا، هل لي أن أخدمك بشيء؟ يبدو أنك مُتعب." ودعوته ليدخل، فدخل وجلس بجانبي وتنهّد بنفسٍ طويلٍ وقال: خرجت من البيت منزعجًا لخلافٍ بيني وبين ابنتي، والوقت يداهمني، فأنا على نية أن أَأُمّ اليوم في المسجد وألقي خطبة الجمعة...
فابتسمت لهذه المصادفة الجميلة، وقلت للشيخ: أتعرف أنّك الآن برفقة قسيس مسيحي في طريقه إلى كنيسته لكي يئمّ هو الآخر بجمعٍ من المصلّين المسيحيّين ويلقي خطبة الصلاة؟! كيف جمعتنا الأقدار لنلتقي معًا في مهمّة متشابهة! فذهل الرجل وابتسم وشكر وعبَّر عن تقديره. وتواصلنا بالحديث إلى أن وصلنا إلى مفترق طرق بدا أنه يؤدّي فرعٌ منه إلى جهة المسجد الذي أجهل مكانه، فطلب صاحبي أن أتوقّف للنزول... فأبيت وقلت: لا بدّ أن أوصلك إلى مدخل مسجدك، ولما وصلنا صافحني شاكرًا وأقسم أنه سيُضمنُ خطبة الجمعة بأن قسيسًا مسيحيًّا رآني مُتعبًا في الطريق فأخذني بسيارته وهو عالم أني مسلم وأصرّ أن يوصلني إلى مدخل مسجد المسلمين رغم أنه ماضٍ بطريق آخر...
وغاب الرجل ولم أعد أراه، وبقِيَتْ الذكرى تحمل معها ما تحملهُ من معانٍ!
أنا هنا لا أقول هذا مفاخرة... فبين المسلمين أفاضل كرام أيضًا... لكن أودّ أن أقول إن المحبة أفضل من الكراهية، والتآلف أفضل من المعاداة، فالإنجيل يقول: "من يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل فذلك خطية له."
التعصُّب يهدم جسورًا من التواصل يجب أن نُقوّي بُنيانها. التعصُّب يرسم على وجه صاحبه عُبوسًا، فلا تلمس سلامًا في عينيه، ولا سماحة في وجهه، أما المحبة فتفرد الوجه، وتلمس في عيني صاحبها سمات الطيب والانفتاح. لا أمل لعالمنا في غياب المحبة والتسامح وطيب المعشر واحترام الآخر أيًّا كان الآخر...
ومن يودّ إكرام عقيدته فليكرمها بطيب معشره، وبحسن تعامله ومرونته وانفتاحه.
وبالتالي كما قال المسيح له كل المجد: "كل شجرة تُعرَفُ من ثمارها".

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2022

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10628148