"سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم." (يوحنا 27:14)
رسالة السلام التي نادى بها المسيح، رسالة مُميّزة، لم ينطق بمثلها أحد، فهو نادى وعلّم أتباعه نبذ التشاحن والعنف والقتال والحروب، وردّ الأذى بالأذى، سواء بينهم كأفراد، أو بينهم وبين غيرهم ممن اختلفوا عنهم بالعِرق أو المذهب أو العقيدة.
ولعل أوضح ما نُذكر به هنا قول يسوع لأتباعه: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم."
وقد أكّد الإنجيل على هذا النهج من التسامح وحسن التعامل بين الناس في أكثر من مكان، وفي هذا قال بولس الرسول طاعة لتعاليم سيده: "إنْ كان مُمكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم... فإن جاع عدوّك فأطعمه، وإن عطش فاسقه... لا يغلبنّك الشر، بل اغلب الشر بالخير." (رومية 12)
لم يدعُ المسيح يومًا للحرب أو القتال، ففي أحد المواقف حين هاجمه جماعة من اليهود مع مجموعة من جند الرومان، حاول بطرس حينها أن يدافع عن سيده بسيفه أو خنجره، فضرب أحد المهاجمين وقطع أذنه، فقال له يسوع: "رد سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون." بمعنى أن السيف يلاحقهم! وهذا ما نراه ونشهده حتى اليوم وعبر التاريخ، حتى بين أتباع المعتقد الواحد. خصامٌ فحرب فثأرٌ فانتقام... جريرة من المصادمات والحروب المتلاحقة والتقاتل المستمرّ وسفك للدماء بلا توقّف!
من بين أقوال المسيح لأتباعه: "طوبى لكم إذا عيّروكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين."
فهو - له كل المجد - بدل أن يقول: حاربوهم وانتقموا منهم وردّوا الأذى بالأذى، قال: "افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السماوات." بمعنى أن أولئك خاسرون، وللأسف غارقون بدمائهم... وأنتم الرابحون.
كيفما قلّبت صفحات الإنجيل، تجده يتحدّث عن السلام والحبّ والتسامح، ويرفض الحرب والانتقام والثأر من الطرف المعادي، يُعلّم شعبه أن يكونوا مُحبّين مُتسامحين متراحمين... فعلّمهم بما نسمّيها [الصلاة الربانية] التي نردّدها في كنائسنا أثناء العبادة فنقول: "أبانا... واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضًا نغفر لكل من يذنب إلينا..."
والمسيح القدوس أعطى نفسه مثالًا في ذلك حين صلّى لأجل صالبيه: "يا أبتاه، اغفرْ لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون." (لوقا 34:23) فهل من مثالٍ للتسامح أسمى من هذا!
ثم إن صفة السلام التي في المسيح، سبق وأنبأ بها الوحي على لسان إشعياء النبي في الأصحاح 42 من سفره نحو 700 سنة ق م، حين وصف المسيح بالقول: "لا يصيح، ولا يرفع ولا يُسمِعُ في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مُدخنة لا يُطفئ." مسيحنا لا يؤذي... وعلّم شعبه المنتمين إليه بحق أن لا يؤذوا أحدًا.
أتباع المسيح بما فيهم تلاميذه ساروا على نفس النهج بعد صعوده للسماء، فلم يدخلوا كغيرهم في معارك التنافس على المراكز القيادية، بل حملوا رسالته بأخُوّة وطيب قلب وقاموا بنشر الدعوة بين الشعوب، ودعوا الناس إلى التوبة والإيمان بالإنجيل. لم يحملوا سيفًا في وجه أحد، ولم يُكرهوا الناس للدخول في دين الله (إن جاز التعبير) بل تركوا للناس الخيار بالقبول أو الرفض، مُقدّمين رسالتهم بأسلوب إنساني يخاطب العقل والضمير بلا تهديد أو وعيد، ودون استعلاء على أحد، فمن قَبِل الرسالة بحرّيته باركوه، ومن لم يقبل رجوا له الهداية دون إيذاء، إذ كيف للعقل أو الضمير أن يُجبر أحدًا على عقيدة لا يقتنع بها؟!
وما يثير العجب في هذا، أن المسيحية بكل هذه السماحة والتعاطف واللين، انتشرت وغطّت قارات بأكملها لم يصل إليها غيرها وقضت على أصنام الشعوب الوثنية التي وصلت إليها بلا تهديد أو ترهيب! فكيف اجتذبت المسيحية شعوبًا كانت تعيش في ظلام الوثنية لتؤمن بربٍّ واحد قدوس لا إله سواه، دون حرب أو إذلال؟! وكيف نجحت في مسعاها ولا ربًّا يُباركها أو سيفًا يحميها ويشقّ طريقها بين الشعوب لو كانت في ضلاله، وإنجيلها مُحرفًا كما يتوهّم البعض!
ألا يقدّم هذا السلوك المسيحي نموذجًا يشهد على صدق المسيحية وسلامة انتمائها لله؟! الديانة المنحرفة تميل للبطش والمعاداة وظلم الناس وترهيبهم، ولا تعتمد المسلك الإنساني الذي يحترم الآخر.
والشعوب الوثنية التي تتجاور مع أوساط مسيحية، تطمئن لها وتشعر بالأمان ولو بقيت على معتقداتها الدينية، لأن المسيحية لا تُهدّد ولا تتوعّد، فالمحبة لديها أقوى من السلاح وصولة الرماح، والدعوة للإيمان عندها لا تتأتّى بقهر الشعوب وإذلالها، فالخوف والترهيب يشلّ العقل ويُغيّب الإرادة، أما المحبة فتخترق القلوب وتلثم الجراح، وتُعطي الدفء والاطمئنان، وتغرس في النفس المُستهدفة نفسية هادئة مرتاحة، وتنفي عنها الشعور بعدائية الطرف الآخر.
ولذلك نقول إن انتشار المسيحية الواسع في العالم مردّه إلى سلاح أمضى من السيف والرمح والعصا والخنجر، فبالحب والتسامح والتعامل الإنساني تشكّلت الأدوات القتالية لهؤلاء، وبهذه وحدها شقّت المسيحية طريقها لتصل إلى مختلف الشعوب، دون قتال يُسفر عن غالبٍ أو مغلوب، والشعوب التي اختارت المسيحية اختارتها بملء حريتها.
أوليس الحب أقوى من الكراهية! والتسامح أقوى من الانتقام! والرحمة أقوى من البطش وقسوة السلاح! والرفق أقوى من وحشة الحروب! واللجوء إلى الله العادل أقوى من الرمح والعصا أو الخنجر والبندقية!
فالعصا لا تجبرني على الصلاة والإيمان بالله، بل تصنع مني منافقًا يتظاهر بالتقوى ويُبطنُ عكسه. أما بالحب فأقترب إلى الله وأفتح القلب له ليملك عليه لأن الله محبة.