راحَ رئيسُ الخدَم في المطبخ يغوصُ في أفكاره وهو يرتِّبُ وينظِّمُ كلَّ ما يجبُ عليه أن يعملَه من تجهيزات وتحضيرات لكي تكونَ المناسبةُ لائقةً وتُرضي السيِّد ربَّ البيت. إذ كيف له أن ينسى ما قد مرَّ به هذا الأبُ من ألمٍ وحسرةٍ حين قضى الأيام لا بل السنين وهو سهران وحيران.
أمَّا اليوم فهو يومُ فرَح ويومُ عيدٍ واحتفال، يوم الأهازيج والموسيقى، يوم إعلانٍ للملا والأقرباء والأصدقاء والجيران عن حَدَثٍ سعيدٍ ورغيدٍ لطالما انتظرنا قدومَه منذُ سنين بدتْ للأب ولنا نحن أيضًا وكأنَّها أزمان...
هذا ما شغلَ به رئيسُ الخدَم فكرَه وذاكرتَه. لكنَّ الأمر لم يَطُلْ كثيرًا لأنَّ الابنَ الأكبر للسيّد قطَع عليه حبلَ أفكاره ليس بكلامِه النَّابي فحسبْ بل بموقفِه ممَّا كان يحدُث في البيت الذي تربَّى فيه وترعرع والذي بحسبِ رأيه لم يمنحْه الاهتمامَ الكافي مثلما فعلَ جميعُ مَن في البيت الآن في هذا الحدَث. "وأيُّ حدَثٍ مشرِّف هذا الذي يستعدّون له يا يوسف؟ حدَث رجوع أخي الأصغر كما أخبرْتَني؟ بعد أن قضى حياتَه هناك بعيدًا عنا، وصرَف ماله من أبينا بعيشٍ مسرفٍ مع الزواني ورفاق السوء؟! أهذه هي المناسبة السعيدة التي تقصِدها يا حضرة رئيس الخدم؟ لا، فأنا لا أريدُ الدخول ولا أبغي لقاءَ أخي العاصي ولا حتى سماعَ آلات الطرب ولا رؤية الذين يرقصون. هل هكذا يُكافأُ أخي المتمرِّد بعد أن عاش سنين هذا عددُها بعيدًا عنا وعن العائلة؟"
انتبهَ عندَها يوسف رئيسُ الخدَم إلى ما أفصحَ به الابنُ الأكبر وسرعانَ ما انتصب أمامه وحيَّاه بكل احترامٍ ووجَل خوفًا منه على مركزه وعمله ومصدر رزقه. واستمع إليه ولكنَّه لم يُبدِ رأيًا في الموضوع بل كتَم كلَّ ما كانَ يفكرُ به في داخل حناياه ولم يبُحْ به له. فهو لم ولن ينسى، كلَّا، ذلك اليوم الذي وُلد فيه الابنُ الأصغر وكيف ساعد فيما بعد في تنشئته وتربيته. وكيف كان يحبُّه ويلاعبه ويعتني به لئلا يتعرَّضَ لأيِّ سوء. نعم، لم ينسَ ذلك كلَّه. هو الذي احتضنه ورعاه كلَّما دعاهُ السيد إلى فعل ذلك. والآن، عاد لِيُذكِّرَ نفسه بأنَّه ينبغي هو وسائر الخدم أن يقوموا بتلبية طلبات السيد وينتهوا من التحضيرات قبل أن يدُقَّ الباب الضيوفُ والجيران والمدعوّون.
"هيَّا يا بطرس وأنتَ يا يوحنا" قال يوسف لمساعديه من الخدم، "املأ الجرار وأعدَّا جميع أصناف الأطعمة المحبوبة لدى حبيبنا العائد. ولا تنسيا ما طلبه منّا السيد بأن نأتي بالعِجل المسمّن ونذبحه ونشويه فالمناسبة سعيدة ومميزة ولم يكن لها مثيل من قبل." ردَّ الخادمان عليه والدهشة ظاهرة عليهما: "ماذا قلت؟ العج.. العجل المسمّن!؟" "أجل، أجل! هذا ما أمرَنا به سيّدُ البيت فهو يريد أن يعَبِّر عن فرحته بعودة الابن المحبوب."
وهنا عاد يوسف ليتذكّر من جديد ذلك اليومَ المشؤوم الذي فيه حلَّتِ المأساةُ في البيت يومَ طلب عندها الابنُ الأصغر من أبيه أن يمنحَه نصيبه من المال ومع أنَّ الأب استغرب جدًّا هذا الطلب، إذ لم تكنِ العادة أن يرث الابنُ أباه وهو بعد على قيد الحياة، إلَّا أنَّه رضخ للأمر الواقع وقسم معيشته لولدَيْه الاثنين. أما الذي حدث بعد ذلك فكان أصعبَ بكثير من ذي قبل. إذ قام الابنُ الأصغر بجمعِ كلِّ ما لديه وسافر. إلى أين؟ سافر إلى كورة بعيدة جدًّا عن البيت الذي رعاه وربَّاه وعاش في كنَفه. ولم نعدْ نرى وجهَه أو نسمع حتى أخباره. ولكَم كان يحزنُني منظرُ والده المتقدّم في السن وهو يجلس على الكرسي يومًا بعد يوم متوقّعًا رجوعه إليه وعودته بكل لهفة وشوق. وكم من مرة خاب أملُه حين غابت شمس يوم الانتظار ولم يظهرْ له أيُّ أثر. وهكذا قضى الأبُ السنين والأعوام وهو ينتظر عودةَ الغائب إلى حضنه الدفيء.
لكنْ ومنذُ أيام فقط وبينما أنا في المطبخ إذا بي أسمعُ ضجةً في الخارج فذهبت لأرى ماذا كان يحدث. عندها تجمَّدْتُ فعلًا في مكاني إذ حدث ما لم يكن في الحسبان، وشاهدتُ بأمِّ عيني كيف ركضَ الأب سيِّدُ البيت في الطريق ليستقبل الابنَ الأصغر الذي عاد أدراجَه بمنظرٍ لا يُحسَدُ عليه. وعلى الرَّغم من منظر الشقاء الظاهر على ثيابه ووجهه إلَّا أنَّ الأب الحنون احتضنه ووقع على عنقه وراح يقبّله. أمَّا المشهدُ الأكثرُ استغرابًا فكان حين سمعتُ الابنَ العائد يركع بكل تواضع وانكسار عند رجلَي أبيه والدموعُ تفيضُ من مآقيه وهو يقول بحرقةِ قلب: "يا أبي أخطأتُ إلى السماء وقدَّامك ولستُ مستحقًا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا. اجعلني كأحد أجْراك." ماذا؟ قلتُ في نفسي، وهل يُعقل أن يغدو الابنُ واحدًا منّا وهو ابن السيِّد؟ لا لا يمكن. حاشا وكلّا! وعاينتُ عندها المنظر المؤثر الذي لن يَبرح من مخيّلتي حين دخل الأبُ ومعه ابنه إلى البيت والتفتَ إليّ وإلى باقي الخدم وقال: "حالًا، أخرِجوا الحلّة الأولى وألبسوه واجعلوا خاتمًا في يده وحذاءً في رجليه." عندها قلت في داخلي: "فعلًا ما أحنَّ هذا السيد، انظروا إلى وجهه لقد أصبح مشرقًا وضَّاءً بعد أنْ كان كئيبًا. وتساءلتُ أيمكِنُ أن يقبلَه من جديد؟ يا له من أبٍ عظيمٍ ورحيمٍ وكريم! ثم ما لبثَ أنْ طلب الأب منّا أن نذبح العجلَ المسمَّن. أجل، العجل الذي كان يربّيه ويعتني به بنفسه، أصرَّ أن نذبحَه حتى يأكل الجميع منه ويفرحوا معًا بقدوم الابن الصغير الذي وصفهُ فيما بعد وقال: "لأنَّ ابني هذا كان ميتًا فعاش وكانَ ضالًا فوُجِد." حقًّا، قلتُ في نفسي من جديد، لقد كان ضائعًا وضالًا وعريانًا وتائهًا في كورةٍ بعيدة. والآن عادَ هذا الضَّال إلى حضن أبيه الذي قبِلَه فرِحًا.
نعم هذا بالضبط ما حصل، وهكذا عاد السرور والحبور إلى بيت سيدي واشترك الجميع من أقارب ومدعوّين وأصدقاء معنا في الاحتفال بعودة الضال على الرغم من اعتراض الأخ الأكبر على قبول الأب لأخيه الضائع والتائه، حتى وبعد محاولة الأب إقناعَه بالاشتراك مع الآخرين والترحيب بمَن كان ميتا فعاش وضالا فوُجد.
- رئيس الخدم يوسف (شاهد عيان)
وهنا يا صديقي أتتْ على فكري كلماتُ هذه الترنيمة التي سمعتُها مرارًا وتكرارًا وهي من لحن زياد الرحباني المُلحِّن اللّبناني المشهور، والتي تصف حالةَ العالم كلَّه وليس فقط هذا الابن في المثَل الذي قدَّمه المسيح للناس من حوله. إذ تقول كلماتها:
العالمُ جائع، العالمُ جائع، وخبزُ الحياة خبزُ السماء، خبزُ سلام الأرض. فخُذوا عن مائدتي الخبزَ ليأكُل العالم.
العالمُ ضائع، العالمُ ضائع، وأنا الطريقُ وصوتيَ صوتُ الرجاء...
العالمُ عريان، العالم عريان، والأرضُ غنيّة لكنَّ الإنسان سرَقوا منه الثوب سرقوا الحب. فخُذوا ثوبيَ ثوبَ الحقّ ليَلْبسَ العالم..
هذه القصة تمثّل حكاية البشر في عالمنا، ليس اليوم فحسب، بل منذ بداية الخليقة، إذ ضلُّوا عن الطريق الحق وتبعوا شهواتهم وغرائزهم وابتعدوا عن حضن الحنان والمحبة. وظنّوا بأنهم يستطيعون حقًا أن يعيشوا هناك في الكورة البعيدة بعيدًا عن الله إله المحبة الأبدية إله الرحمة إله الحنان والغفران. لكنّهم بعد ذلك وَجدوا أنفسهم جائعين، وعراة، يتمنّون أن يأكلوا الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، تمامًا كما اشتهى هذا الابنُ الأصغر حين كان راعيًا للخنازير. نعم عالمٌ جائع، وضائع، وعريان، نعيش فيه ويتعرّضُ فيه الكثيرون منا إلى الانزلاق وراءَ الحريةِ والشهوات والعيش الرغيد كما يفكّرون. لكن تأتي النتيجة كارثية كما حصل مع هذا الابن الضال والنتائج وخيمة. لكن، حين يعود الإنسان إلى نفسه مثلَما فعَل هذا الابنُ الأصغر ويراجع حساباته، لا بدَّ له أن يندَم على ما فعل. ولا بدّ ساعتئذٍ أن يعود ويسمع صوتَ الروح القدس يتكلم إليه في داخله ليوقظَه من غفوته. فيتحوَّل النَّدم إلى توبة فعلية ومن ثمّ إلى اعتراف صريح لله المحبّ بما فعل وهو بعيد عنه. عندها وعندها فقط، يخرُّ على قدميه ساجدًا ويصرخ باكيًا تمامًا كما فعل الابن الضال حين قال: "أخطأتُ إلى السماء وقدّامك ولستُ مستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنًا فاجعلني كأحد أجراك." نعم، ندِم وتاب والآن يعلن توبته الحقيقية بالرجوع إلى الآب الحنّان. والله الآب يقبل كلَّ مَن يأتي إليه نادمًا عن خطاياه ومؤمنًا بما عمِلَه الابنُ الوحيد الرب يسوع المسيح على الصليب من أجله وبدلًا عنه. هذا هو حضنُ الآب السماوي الدافئ يا قارئي، وهذه هي المحبة الغافرة بأسمى معانيها. فهل تعود إليه من جديد؟